ما أكثر من يستغربون الكلام على تعليم الشعر، ويسارعون إلى القول إن الشعر لا يعلم، وإن الشاعر يولد شاعراً. نعم، كل امرئ يولد معه ميل أو استعداد أولي في ناحية ما أو في حقل من الحقول. ولكن ذلك الميل أو الاستعداد لا يبلوره ويصقله وينميه سوى التعلم واكتساب المعارف، وتعليم الشعر لا يقضي بتحويل المتعلمين إلى شعراء (أي إلى كتاب للشعر)، وإنما من شأنه أن يكشف عن إمكاناتهم أو مواهبهم، فقد ينحو المتعلم نحو النقد أو الدراسة الأدبية، وقد يكتفي بحبه للشعر وبتطوير ذوقه الفني. ولكنه في جميع الحالات سوف يستفيد من درس الشعر في تحسين علاقته باللغة.فالدرس الشعري هو درس لغوي بامتياز. وبعض القائمين على أمور التعليم في بلداننا العربية يحسبون أنهم قد أدرجوا في البرامج مادةً لتعليم الشعر، هي مادة القراءة التي تتضمن ما يسمونه بالمحفوظات. وهي مقطوعات شعرية يجبر التلامذة على حفظها. ولهذا، لا يتطرق خبراء التربية عندنا إلى الشعر في كلامهم على التربية الفنية وضرورة العمل لتعزيزها. فهم غالباً ما يقصدون في كلامهم ذاك فنوناً كالرسم والموسيقى والمسرح...الخ، اعتقاداً منهم بأن للشعر حصته الكافية في برامج التعليم المعتمدة. من ناحية أخرى، يلاحظ القائمون على أمور التعليم، وكذلك خبراء التربية في بلادنا العربية، أن التلاميذ قلما ينجذبون إلى حفظ الشعر العربي. كما يلاحظون أن الطلاب في المراحل الثانوية والجامعية ينفرون من المواد المتعلقة بهذا الشعر، وخصوصاً بأوزانه، التي يصبح تعلمها في المراحل التي أشرنا إليها أصعب من تعلم لغة أجنبية. إن ما يتصل بالشعر العربي في البرامج المعتمدة في مدارسنا وجامعاتنا ليس من تعليم الشعر في شيء، ليس إلا عمليةً ناقصة أو مرتجلة، غالباً ما تؤدي إلى نتائج عكسية، أي إلى خلاف ما يرتجى منها. ولهذا ينبغي إعادة النظر في هذه القضية بصورة جذرية، انطلاقاً من القناعة بأن الشعر العربي وتعليمه يستحقان أقصى الاهتمام. وذلك لأن الشعر كان ولا يزال من المكونات الأساسية للشخصية العربية (في المستويين الفردي والجماعي). ففي إهماله أو التهوين من شأنه استخفاف بهذه الشخصية، وفي تحسين تعليمه تحسين لتعليم المواد الأخرى على أنواعها. هذا التحسين يعزز من إمكانات تعليم اللغة العربية ولا يتعارض مع الاهتمام بالمواد العلمية، بل يشجع على زيادة الاهتمام بها، ويحسن من شروط الإقبال عليها عند التلامذة. إن تعليم الشعر مهمة أساسية يجب أن يتصدى لها جميع القادرين في وطننا العربي، انطلاقاً من القناعة بأن هذا التعليم لا يمارس اليوم إلا بطرق قاصرة ومبتسرة وغير مجدية. فالوسائل المعتمدة، من كتب وغيرها، ضعيفة إجمالاً. وكذلك المناهج المتبعة. وأما الجهاز التعليمي، وهذا هو الأخطر، فلا يتألف، في الأغلب، من ذوي الكفاءات. فتعليم اللغة العربية، في المراحل الابتدائية خصوصاً، متروك لمن يرغب. إن مهمة النهوض بتعليم الشعر عندنا مهمة جليلة، لا يستطيع القيام بها شخص من هنا أو شخص من هناك، بل تحتاج إلى مؤسسات وإمكانات كبيرة، وإلى فرق فنية من ذوي الخبرات الواسعة والأذواق السليمة، تعمل على وضع المناهج والبرامج المناسبة. ومثل هذا الأمر يقتضي خطةً لا تعطي نتائجها إلا على المدى الطويل. إن من يطلع على بعض التجارب في تعليم الشعر لدى بعض الدول المتقدمة، يقع على مدى الجهد الذي يبذل في هذا المضمار من قبل اختصاصيين يملكون الحدس والخبرة والذوق. فهل يقدر لنا أن تصبح لدينا الإمكانات والوسائل لإنشاء تربية فنية حقيقية، يكون تعليم الشعر أساسياً فيها؟ إن ذلك يقتضي سياسةً تربويةً متطورةً تستطيع أن تكتشف الطاقات وتسدد التوجهات. جودت فخر الدين jawdatfakhreddine@hotmail.com