لن يقرأ ما نكتب أكثر من أربعين ألف «هيكل عظمي»، تحاصرهم ميليشيا «حزب الله» في مضايا السورية، ولن يقرأه حوالى خمسة وأربعين ألف مدني في معضمية الشام، قد تتحوّل أجسادهم بعد مدة قليلة لتصبح شبيهة بأجساد أهالي مضايا، بفعل سياسة «الجوع أو الركوع» ذاتها التي يعتمدها النظام. الأمر نفسه ينطبق على المدنيين المحاصرين منذ ثلاث سنوات في الغوطة الشرقية لدمشق، أو على المحاصرين في دير الزور من جهتي النظام و «داعش» معاً. ثم إذا افترضنا أن نزراً يسيراً من هؤلاء أتيحت له نعمة الدخول إلى الإنترنت، من المنطقي أن ينصرف اهتمامه إلى ما يمسّ قضيته، ومن المرجح أن يحظى بخيبة أمل كبيرة، فلا صور تجويعه تستثير العالم لإنقاذه سريعاً، ولا المؤشرات المتداولة دولياً تشي بحل حقيقي بعد حين. هذا ليس تساؤلاً عن جدوى الكتابة، والقارئ «المفترض» الذي أضناه الجوع لا يتوقع منها تقديم الخبز له، إذا لم نقل إنه أصلاً غير موجود في الحسبان، فنحن نستثنيه مسبقاً، إذ نتوقع انحصار اهتمامه بما يتصل بمعدته والسياسات أو المعارك التي قد توصل الطعام إليها. بالأحرى، خيبة الأمل متأتية من أن معظم ما يُكتب عن المسألة السورية غارق في اليأس، أو في انعدام اليقين من وجود إرادة دولية لحل سريع، أو لحل يتمتّع بحدّ أدنى من الإنصاف. لندع لغة العموميات جانباً، فهي المرة الأولى في الحروب التي تُخاض فيها حرب تجويع على نطاق واسع تحت مرأى العالم كله. ما قيل سابقاً عن حصار إسرائيل قطاع غزة لا يقارن أبداً بما يفعله الممانعون بالمناطق السورية الثائرة. هي المرة الأولى التي تُخاض فيها حرب أهلية، كما صنّفها الغرب منذ البداية، ويُضمن لأحد الأطراف التفوّق الساحق طوال الوقت، التفوّق الذي يضمن المضي في الإبادة، بينما يُحرم الطرف الآخر تماماً من وسائل الدفاع عن النفس. اصطناع أعذار للعالم غير مقنع، ولا يتّسم بالأخلاقية أيضاً، فالدول الكبرى كلها على تماس مباشر مع ما يحدث في سورية، والجميع يعلم من التفاصيل أكثر مما يظهر على الشاشات ومما نعرفه بوسائل اتصالنا الشخصية. سياسة «الجوع أو الركوع» التي يعتمدها النظام وحلفاؤه مطبّقة منذ ثلاث سنوات، تخلّلها صدور قرار «غير ملزم» عن مجلس الأمن بإدخال المساعدات الغذائية والطبية إلى المناطق المحاصرة، ولا يكفي القول أن القرار لم يكن ملزماً، فالأقرب إلى الدقة أن الأمم المتحدة لم تتابع تنفيذه على الإطلاق. وإذا ابتعدنا قليلاً من تلك المناطق إلى مخيمات النازحين في دول الجوار، سنرى التطبيق الأمثل لنهج الأمم المتحدة، حيث في كل شتاء يموت أطفال من البرد في تلك المخيمات، ولولا المعونات التي تُقدّم من جمعيات محلية أو أفراد لمات عدد آخر من الجوع، ولولا معونات أخرى مماثلة لنشأ جيل كامل لا يعرف عن التعليم شيئاً. التطبيق الأمثل أيضاً للسياسة الدولية المتبعة، أن تسرّب دوائر صنع القرار تكهنات بأن الصراع في سورية سيستغرق عشر سنوات، وألا يتسرّب هذا التقدير إلى المنظمات الدولية الإنسانية التي بقيت تتعامل مع الحدث في شكل موسمي طارئ، أو تتجاهله كلياً. سَوق أمثلة عن تقاعس العالم في أماكن أخرى لا يعفيه من المساءلة، فتكرار الجرائم ضد الإنسانية لا يجعل منها شرعة مقبولة، ولا يجعل السكوت عنها فضيلة. ولئن لم يكن العالم مطالَباً بالتدخل لإنقاذ السوريين، فهو مطالب بأن يكفّ عن انحيازه إلى القاتل، ولئن لم يعد العالم مطالباً حتى بحد أدنى من النزاهة والسماح للسوريين بالحصول على أسلحة تمكّنهم من الدفاع عن أنفسهم، فهو على الأقل مطالب بحماية المدنيين منهم، مع معرفتنا ومعرفة العالم أن المدنيين هم الأكثر تعرّضاً للاستهداف، وبأن حرب الإبادة التي يخضعون لها تتراكب فيها عوامل عدة، منها عامل الإبادة الطائفية الممنهجة. السوريون جميعاً يدركون أن العالم اتخذ قراره، موالو النظام يدركون ذلك قبل غيرهم، لذلك يتشفّون بالصور الآتية من مضايا وغيرها، ويتوعدون أهالي المناطق الأخرى بإبادة مماثلة. نعم، ثمة استقواء وقح من النظام وحلفائه بالمجتمع الدولي، وليس المقصود هنا سلبية مُدّعاة للمجتمع الدولي، الاستقواء هو بانحياز القوى الفاعلة إلى صف النظام، والانحياز يتضمن الموافقة الضمنية على جرائمه كافة. التستّر بجرائم «داعش» صار تدليساً لا يمر على أصغر العقول، والتستر بالسلبية أو بضعف الإرادة الدولية أمر مماثل، إنها المشاركة الفعلية في الجريمة. ما سرّبته وكالة «أسوشييتد برس» عن خطة أميركية للحل، لا يعني سوى الاعتراف بشرعية القاتل حتى إشعار آخر، ولا يعني سوى ترك قرار القتل وأجهزة القتل بأمرته لسنة إضافية أخرى ترحل في نهايتها الإدارة الأميركية الحالية. لا كلام في الخطة الأميركية، أو في المخططات الأممية عن وقف الحرب على المدنيين، لا ضمانات سوى للقاتل الذي أباد مئات الآلاف من السوريين بالخروج يوماً معززاً مكرماً كبطل، هذا إذا وافق على الخروج. بالوسائل كافة يريد العالم إفهام السوريين بأن حقوقهم مهدورة، ومن المحبّذ أن يتذكروا حقوق شعوب أُهدرت سابقاً كي يقبلوا بالواقع. لكن تغييب العدالة لم يكن ناجحاً تاريخياً كما يُراد تسويق ذلك الآن، إلا في حالات إبادة معظم السكان الأصليين في العالم الجديد زمن الاستعمار القديم، وإذا تعذرت إبادة السوريين الآن مع تعذر إقامة العدالة، سنكون أمام إنتاج حرب سورية لن تنتهي حتى خلال السنين العشر المتوقعة. على أقل تقدير، سنكون أمام حرب مؤجلة في انتظار انقضاء الزمن الروسي والإيراني الذي لن يدوم لحلفائه في الداخل أو في الجوار. مع الأسف، ما نكتبه لن يقدّم الغذاء لأهالي مضايا أو سواهم من ضحايا التجويع، وما نكتبه أيضاً لن يقيم السلم الأهلي، ولن يقيم عدالة انتقالية تشفي من الأحقاد. ثم إننا لا نستطيع القفز على كل تلك الوقائع، والقول أن الشمس ستشرق والعصافير ستزقزق، لذا ربما كان من الأفضل لو لم يُكتب هذا المقال.