أفرزت التطورات الأخيرة التي جرت بها الأقدار في المملكة العربية السعودية، كثيرًا من الحقائق التي باتت واضحة وبجلاء تام للعالم برمته، لا في منطقة الشرق الأوسط وحسب، وفي مقدمتها إدراك الأهمية الاستراتيجية للسعودية التي فاض بها الكيل في مواجهة الأطماع الجيوسياسية لإيران تحديدًا. ولعل المتابع الجيد لكثير من مراكز الدراسات الحصيفة في واشنطن، وكذلك لبعض الصحف الأوروبية الرصينة، يدرك كيف أن هناك وعيًا صادقًا لأهمية الدور الذي تلعبه السعودية «كحجر زاوية» في الشرق الأوسط. خذ إليك على سبيل المثال ما كتبه سايمون هندرسون، مدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، تحت عنوان «الأزمة التي تهدد السياسة الأميركية في المنطقة»، إذ أشار إلى أنه يتوجب على واشنطن أن تتحرك بسرعة لنزع فتيل التوتر في منطقة الخليج. بعض الأصوات البريطانية الأكثر عقلانية تدرك أن السعودية كانت ولا تزال حليفًا صادقًا وموثوقًا وغير متغير منذ أكثر من سبعة عقود للغرب، رغم عدم تنازل هذا الحليف عن قيمه الدينية وثوابته العروبية، ولهذا فإن الحفاظ عليه ودعمه في مواجهة الآخرين قد يكون أمرًا واجب الوجود. هذا ما عبر عنه الكاتب البريطاني كون كوغلن في صحيفة «الديلي تلغراف» مجملاً مقاله بالقول إن «تحسين العلاقات مع طهران قد يكون خطوة دبلوماسية جديدة، لكن حين نفكر في الدفاع عن مصالحنا فإن الخيار الأكثر صوابًا هو البقاء إلى جانب الحلفاء المجربين كالسعودية». من أين تنبع الأهمية الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية؟ لبضعة عقود كان الجميع يحاجج بأن مكانة السعودية مرتبطة بمواردها النفطية، غير أن واقع الحال يشير إلى أن المملكة أصبحت «رقمًا صعبًا» في استقرار المنطقة عبر كثير من الملفات الملتهبة التي تحاول إطفاء نيرانها وفي المقدمة منها الملف السوري، إضافة إلى الإشكالية اليمنية التي تمثل جرحًا نازفًا جديدًا في الجسد العربي المثخن بالجراح. ولعل البعد الذي يبقى دائمًا وأبدًا خاصية مميزة للسعودية، هي أنها تمثل قلب العالم الإسلامي السني النابض، وهي ذات مسحة دوغمائية عقائدية تجعلها محط الأنظار للمسلمين من كل القارات، وعليه فالتعاطف والتعاضد معها يتجاوز نسبيات السياسة إلى مطلقات الأديان. ولهذا فإن أي اختلالات تصيب كيانها، إنما تمس شغاف قلوب العالم الإسلامي السني حول الأرض، مع الارتدادات المصاحبة ولا شك، وهو ما يتفهمه جيدًا المحللون الموضوعيون لا العاطفيون أو الموتورون، وأصحاب الأقلام والرايات والشاشات بل والضمائر المستأجرة. منذ أسابيع قليلة أدرك العالم أن السعودية تحاول جادة، وعازمة النية والقصد على مجابهة «الإرهاب الأسود» الذي يهدد العالم، متمثلاً في «داعش» وأخواته، ولهذا دعت إلى إقامة تحالف يجمع العالم الإسلامي، في استنهاض للقوة الإيجابية في مواجهة «الشر المتصاعد»، وبذلك كانت تعمل على قطع الطريق على استفحال هذا الخطر، والعمل كذلك على استقرار العالم الذي لم يعد يهنأ صباح مساء كل يوم. هذا المشهد أدركته صحيفة «التايمز» البريطانية، فقد كتب روجر بويز تحت عنوان «السعودية تستحق الثناء لا العقاب» يقول إن «السعودية استمعت جيدًا إلى المطالب الغربية، وشكلت تحالفًا إسلاميًا من أجل مكافحة الإرهاب الإقليمي، وتحاول تشكيل جبهة موحدة من المعارضة السورية لتشارك في حل سياسي لإنهاء النزاع». الصحيفة البريطانية ذائعة الصيت تعقد من تلقاء ذاتها عملية مقارنة أولية بين الدور السعودي في المنطقة كما تقدم، والدور الإيراني الذي تصفه بأنه يقوم بتوجيه الشيعة في الدول العربية مثل سوريا والعراق، ودعم حزب الله ونشر قوات إيرانية للدفاع عن نظام بشار الأسد.. ما خلاصة «التايمز»؟ الخلاصة هي أن السعودية عماد أساسي لاستقرار منطقة الشرق الأوسط. هل أدركت واشنطن بشكل خاص هذه الحقيقة؟ إن كانت أدركتها بشكل مفاجئ فتلك كارثة، وإن كانت على علم بها وتتجاهلها بين الفينة والأخرى تبعًا لسياساتها البراغماتية، وكما يتجلى ذلك في الاتفاق الإيراني النووي، فالقارعة أشد هولاً، وإلا فالأسوأ لم يأتِ بعد في ارتداده أو بالأحرى في الانتكاسات المرشحة لها السياسات الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، والتي تخلي مكانها، ربما دون طواعية منها، للدب الروسي الذي بات ثعلبًا سريع الحركة حول المياه الدافئة للخليج. هل لهذا نرى اتصالات كيري المكثفة بين الرياض وطهران، وهناك من يتحدث عن رحلات مكوكية قادمة له إلى المنطقة؟ آخر ما ترغب فيه واشنطن، وأسوأ سيناريو يمكن أن يواجه استراتيجيتها المعروفة بـ«الاستدارة نحو آسيا» في العقود القادمة، هو أن يشتعل الخليج العربي بمواجهات عسكرية، لا سيما أن الآسيويين لن ينتظروا أن تصل النيران إليهم، وفي الغد القريب سيلعبون دور شرطي الإطفاء على غير رغبة من العم سام، والذي سيشهد انزياحًا تاريخيًا من المنطقة. «السعوديون لم يولدوا أعداء بالفطرة لإيران»، كما قال السفير السعودي لدى الأمم المتحدة عبد الله المعلمي، ويمكن أن تكون للرياض علاقات عادية مع إيران، حال توقفت إيران عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول عربية أخرى بما في ذلك شؤون المملكة.. فهل تصل الرسالة لطهران التي اعتذرت للمجتمع الدولي، والذي يأمل أن تتغير سياساتها الممنهجة على إحداث الفوضى الداخلية لدول العالم السني؟ مهما يكن من أمر الجواب، تبقى الحقيقة واضحة وجلية حول تعاظم الأهمية الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية شرق أوسطيًا وخليجيًا وحول العالم في الحال والاستقبال.