في كتابه الأساسي «ما هو الأدب؟»، الذي كان أوضح دعوة منه الى مفهوم الالتزام في الأدب، يؤكد جان - بول سارتر، ما يرد مرات عدة على شكل كلام نظريّ في الكثير من كتبه الأخرى: «إنني أعتبر فلوبير والأخوين غونكور، مسؤولين عن القمع الذي ساد في فرنسا بعد انهيار الكومونة، لمجرد أنهم لم يكتبوا أي حرف يساهم في الحيلولة دون ذلك القمع». طبعاً، إن من يقرأ هذا المقطع ثم يعرف أن سارتر نفسه هو الذي كرّس بعض آخر سنوات حياته لوضع أهم كتاب صدر عن فلوبير «فلوبير أو أحمق العائلة»، الكتاب الذي أصدره سارتر في ثلاثة مجلدات، ثم مات قبل أن يستكمل الرابع، سيدهش: إذا كان ذلك هو رأي سارتر بفلوبير، فلماذا كرّس له واحداً من أهم أعماله النقدية؟ > الجواب واضح. وسارتر نفسه، أكده في حوار أجرته معه «نيوليفت ريفيو» اليسارية الإنكليزية، إذ طرحت عليه سؤالاً عما دفعه الى اختيار فلوبير مادة لدراسة كهذه؟ قال سارتر خلال ذلك الحديث الذي أجري معه في العام 1969، في وقت كان ينجز ما أنجز من الكتاب: «ثلاثة أسباب دفعتني الى هذا الاختيار، أولها سبب ظرفي خالص... حيث أن قلة فقط من الشخصيات في تاريخ الأدب، تركت وراءها كل هذا الكم الذي تركه فلوبير من معلومات ومعطيات وتفسيرات تتعلق بأدبه. ثانياً، يمثل فلوبير النقيض التام لتصوّري الشخصي عن الأدب، حيث أنه لا يكفّ عن إعلان تنزّهه التام عن كل التزام، ناهيك ببحثه الدائم عن مثل أعلى شكلي ليس في أية حال المثل الذي أتطلّع إليه. وثالثاً وأخيراً، كون دراستي لفلوبير تمثّل بالنسبة إليّ استكمالاً لما طرحته في واحد من أوائل كتبي، وهو كتاب «الخيالي» (أو «المتخيل»)...». > ومن الواضح هنا، أن أسباب سارتر تبدو مقنعة تماماً من حيث تحديد خلفية الاختيار، لكنها تبقى في الحقيقة، قاصرة عن فهم انشغال كاتب من وزن سارتر بكتابة نحو 3000 صفحة حول هذا الموضوع، شكلت الأجزاء الثلاثة التي تألّف منها الكتاب حين صدر، إضافة الى جمعه ملاحظات كان يجب أن تساهم في تدبيج الجزء الرابع الذي كان يتعيّن عليه - ضمن إطار المشروع السارتري - أن يكرَّس لدراسة رواية «مدام بوفاري»، لكن سارتر، إذ أضحى شبه ضرير في أعوامه الأخيرة، لم يتمكّن من إنجازه. > مهما يكن من الأمر هنا، من الواضح أن كتاب «فلوبير أو أحمق العائلة» هو في حدّ ذاته كتاب نموذجي، بل يعتبره كثر أهم دراسة أدبية عن أديب بمفرده صدرت في القرن العشرين. لكن، هل حقاً يمكننا أن نقول إن الدراسة هي، فقط، عن غوستاف فلوبير؟ في الأحرى، هي دراسة تنطلق من فلوبير، لتصبّ مباشرة، ليس فقط في مفهوم سارتر عن الأدب وقضايا الالتزام، بل في التصوّر الأدبي الذي كان سارتر قد غاص فيه في ثنايا معظم كتبه التي كانت صدرت سابقاً، من «الخيالي» الى «الكينونة والعدم» وصولاً الى «نقد العقل الجدلي». والحقيقة أن من يقرأ «فلوبير أو أحمق العائلة» يجد نفسه، ليس في قلب عمل فلوبير، بل في قلب عمل سارتر. ذلك أن كتاباً في كل هذا العدد من الصفحات، اشتغل عليه مؤلفه خلال سنوات سجاله الكبير مع اليمين الفرنسي، يفقأ العين حقاً حين يدرك المرء مكانة الكومونة في فكر اليسار الفرنسي وحياته، لا سيما خلال الربع الثالث من القرن العشرين. ومن هنا، فإن كلاماً لسارتر عن استنكاف كاتب من طينة فلوبير، عن مناصرة مقموعي السلطات من أبطال الكومونة وجنودها، كان يعني في ذلك الوقت شيئاً أشبه بالحكم بالإعدام (الأدبي) على فلوبير. وإذ يصاغ ذلك الحكم على تلك الطريقة، يصبح في استطاعة «القاضي» أن يستطرد متحدثاً عن الأدب في شكل عام، وعن الفكر وعن نظريات الالتزام. إن التشكيك، اختصاراً، في موقف فلوبير السياسي - الأخلاقي كان مفتاحاً، إذاً، لنسف مواقف عدة لن يكون فلوبير، مع هذا، مسؤولاً عنها. > تلك، إذاً، كانت «لعبة الختيار» سارتر الذي كان يعرف، في هذا المجال على الأقل، أن نسف أسطورة فلوبير يمثّل نسفاً للفكر اليميني البورجوازي كلّه. ولعلّ أمضى سلاح كان في يد سارتر في ذلك الحين، هو العثور على التناقض الحاسم بين فلوبير وأدب فلوبير... ما يعني أن هذا الأخير كان كاذباً في تعبيره الأدبي. وعلى هذا النحو، يرصد سارتر في فصول «فلوبير أو أحمق العائلة» كل تصرفات فلوبير في حياته، كل أخطائه الصغيرة والكبيرة، كل كلمة أُثرت عنه، مؤكداً طوال الكتاب أن «هذا البورجوازي هو موضع شك» دائم لديه. وحتى حين يذكر سارتر كيف أن فلوبير، في حمأة ما تلى هزيمة الكومونة، انتزع من صدره زر وسام جوقة الشرف وكتب نصاً يشتم فيه فرنسا من أساسها، يحسب هذا في خانة مساوئ فلوبير، لا في خانة حسناته، حيث يقول إن فلوبير هنا «إنما يسعى الى استخدام كلام تجريمي كبير، فقط لأنه يعرف أن الكلام، هذا النوع من الكلام، لا يقتل أحداً ولا يثأر لمقتول» (ص 566 من الجزء الثالث). والحقيقة أن سارتر، إذ يفعل هذا كله لا يفوته أن يعود، مجدداً، الى دوافعه التي حدت به الى التنديد بصاحب «مدام بوفاري» («وهي واحدة من أجمل الروايات الفرنسية»، وفق سارتر على أية حال)، حيث يقول: «منذ العام 1943، حين كنت أقرأ وأعيد قراءة مراسلات فلوبير، خامرني على الفور إحساس بأن ثمة حساباً يجب أن أسوّيه معه، لكن، من أجل تسوية مثل هذا الحساب، لا بد لي أن أعرفه أكثر». وبالنسبة الى سارتر، تقوم أفضل معرفة لفلوبير، في قراءته ثم في الكتابة عنه. ولعلّ من شأن هذا أن يذكرنا بمقدمة الإمام أبو حامد الغزالي، لكتابه «المنقذ من الضلال» أو حتى، أكثر من هذا، بكتابه «مقاصد الفلاسفة» الذي عرض فيه لأفكار الفلاسفة وآرائهم، بدقة وحيادية... لكن فقط لكي يعرفها أكثر وأكثر، ما يمكنه في كتابه التالي «تهافت الفلاسفة» من نقض تلك الأفكار من داخلها لا من خارجها. كان هذا دأب سارتر مع فلوبير... قرأه جيداً وبدقة، ثم تجاوز حبه لأدبه، ليشنّ عليه تلك المعركة الضروس. بل ربما يصح أن نقول إنه ما كان من شأنه أن يشنّ تلك المعركة لو لم يكن يحبه وغاص في أدبه حتى الأعماق. وواضح هنا، أن سارتر يجعل من نفسه نقيضاً للعدد الأكبر من «نقاد» الأدب - والفنون أيضاً - من الذين يدينون وينتقدون من دون معرفة حقيقية، أما إذا عرفوا فإنهم يحبون ويناصرون، الى درجة ينتفي معها لديهم أي حسّ نقدي حقيقي. > إذاً، الى جانب ضخامة هذا الكتاب، وكونه الأفضل، دائماً، للتعرف الى أدب فلوبير والغوص فيه أكثر وأكثر، قد يصح أن نعتبره أيضاً، درساً فكرياً استثنائياً برسم كل الذين يتنطّحون للكتابة والنقد. ولعل في إمكاننا تلخيص الدرس في هذه العبارة، لسارتر أيضاً: «حسناً... إنه سخيف، ولا يوحي بأي ظرف أو خفة دم... لكن ماذا تريدون أن أفعل أو أن أقول: إنه مؤلف «مدام بوفاري» على رغم كل شيء...». > من غرائب الصدف، أن جان - بول سارتر مات أواسط شهر نيسان (أبريل) من العام 1980، أي بعد مئة عام تماماً من رحيل فلوبير (21 أيار/ مايو 1880)... وسيقول سارتر دائماً، أن فلوبير كان أول كاتب قرأ له في حياته الأدبية، كما كان - وهو ما لم يقله سارتر طبعاً - آخر كاتب كتب عنه. عنه؟ بالأحرى «عنا جميعاً، نحن أهل الأدب والفكر الذين يخيّل إلينا أن كل شيء مسموح لنا، بما في ذلك الكذب والتناقض» كما قال الناشط الثقافي الفرنسي برنار بيفو، في معرض تعليقه على كتاب سارتر، عند وفاة هذا الأخير.