تباينت التنظيرات وتشعبت الآراء حول نشأة تنظيم داعش وحول الجهات المسؤولة عن توسعه، بعد أن فرض نفسه بقوة وبوقت قياسي على الساحات السياسية في منطقة الشرق الأوسط. أما عن المستفيد من أنشطة هذا التنظيم فهو سؤال ملغوم يصعب الإجابة عنه، فهناك أكثر من لاعب ماهر في تحريك بيادق رقعة شطرنج الشرق الأوسط الملتهبة. في هذا السياق هناك اتهامات طالت العديد من دول المنطقة، فالرئيس الأميركي أوباما قد صرح في التاسع عشر من فبراير المنصرم بأن السياسات الطائفية لرئيس الحكومة العراقية السابق نوري المالكي والرئيس السوري بشار الأسد أسهمت بتأجيج العنف في بلديهما وظهور داعش. كما ورد على لسان مسؤولين عراقيين وسوريين اتهامات للولايات المتحدة ولأكثر من دولة في المنطقة كذلك عن نشأة هذا التنظيم وعن دعمه ورعايته. أما على مستوى الداخل الأميركي فهناك اتهامات يتبادلها الجمهوريون والديمقراطيون حول التقاعس في الحد من توسع نفوذ هذا التنظيم خاصة بعد سقوط مدينة الرمادي عاصمة محافظة الأنبار في العراق سيما وأن الولايات المتحدة ترتبط مع العراق باتفاقية تعاون إستراتيجي من ضمنها بنود ذات طابع أمني. هذه الاتهامات ليست جديدة ولم تكن خافتة إلا أنها لم تؤخذ على محمل الجد لأنها تفسر على أنها جزء من المماحكات التي تجري عادة بينهما بين الحين والآخر خاصة قرب الانتخابات الرئاسية. إلا أنها حين ترد على لسان الجنرال راي أوديرنو رئيس أركان الجيش يكون لها وزن آخر. فالجنرال ليس طرفا في المماحكات السياسية من جهة وليس أسير مكتب يقبع على بعد آلاف الكيلومترات عن أماكن الأحداث من جهة أخرى، فقد جرب هذا الجنرال سخونتها وإطلع على تفاصيلها الدقيقة لأنه شغل منصب القائد العام للقوات الأميركية في العراق لمدة أربع سنوات. الإعلام يولي اهتماماته عادة لما يدلي به السياسيون من تصريحات حتى لو كانت باهتة لا لون لها، إلا أن تصريحات الجنرال أوديرنو كان لها وقع إعلامي قوي لأهميتها وللموقع المتميز الذي يشغله في الدولة الأميركية. ففي مقابلة مع شبكة فوكس نيوز صرح الجنرال في الثاني والعشرين من يوليو الجاري قائلاً إن الولايات المتحدة الأميركية كان بإمكانها أن تمنع قيام داعش من الأساس لو حافظت على بقائها بشكل مؤثر في العراق واستمعت الى نصائح الخبراء وتوقعاتهم. الجنرال هنا يقر بشكل صريح أن إدارة الرئيس أوباما قد تجاهلت نصائح وآراء الخبراء وتوقعاتهم، واستمعت لنصائح غيرهم ممن يدلون بأفكار تتفق مع مزاج إدارته ونزعتها في الانكفاء والابتعاد عن المواجهات. وقد سبق للجنرال أن أدلى في مناسبات مختلفة بتصريحات أقلقت وأغضبت أكثر من جهة في العراق وفي الولايات المتحدة. فقد أعرب عام 2009 عن قلقه وتحذيره من الاهتمام بأفغانستان ونسيان العراق، وأوصى بعدم التسرع بالانسحاب من العراق والاحتفاظ بـ30,000- 35,000 من الجنود بعد نهاية عام 2011، إلا أن هذه التوصية لم يؤخذ بها. والحقيقة ان الجنرال أوديرنو ليس المسؤول العسكري الوحيد الذي عارض أو تحفظ على الانسحاب الأميركي من العراق فمن ضمن كبار المسؤولين الذين طالبوا بإبقاء قوات لا يقل عددها عن ثمانية آلاف كان وزير الدفاع الأسبق ليون بانيتا. تصريح الجنرال هذا يأتي كما اعتدنا سماعه من بعض المسؤولين الأميركيين بعد ابتعادهم عن مناصبهم أو قرب ذلك، فالجنرال سيحال إلى التقاعد في غضون بضعة أسابيع. ومع أن تصريح الجنرال يأتي في سياق الاتهامات الموجهة لإدارة الرئيس أوباما بالضعف والانكفاء وعدم المواجهة سواء في العراق أو في مناطق أخرى من العالم، إلا أنه يلقي الضوء على عدم قناعة قيادات عليا في القوات المسلحة الأميركية بالإستراتيجية الجديدة التي وضعتها إدارة الرئيس أوباما عام 2012 والمزمع البدء بتنفيذها مع مطلع عام 2016 لأنها تضعف من قدرات الولايات المتحدة على مواجهة تحديات متزايدة تواجهها بفعل عودة الحرب الباردة مع روسيا وصعود الصين وظهور قوى إقليمية في الشرق الأوسط. فوفق هذه الإستراتيجية سيتم تخفيض عدد أفراد القوات المسلحة الأميركية إلى أربعمئة وعشرين ألفا فقط وهي قوة قادرة على تحقيق النصر في حرب رئيسية واحدة وقادرة في الوقت نفسه على ردع طرف آخر في صراع ثان. وهذا تراجع في القدرات العسكرية الأميركية وتحول إستراتيجي عما كان معمول به لفترة طويلة وهو أن تكون القوات العسكرية قادرة على تحقيق النصر في حربين منفصلتين في الوقت نفسه. وليس من الغريب في ضوء ذلك أن تبدأ الإدارة الأميركية بتقليص انشغالاتها القتالية خارج الأراضي الأميركية خاصة تلك التي تصنف ضمن حروب الاستنزاف. والحقيقة أن البقاء المؤثر الذي تحدث عنه الجنرال يمكن أن يفهم بطرائق مختلفة ولا يسعنا أن نفترض بأن المقصود هو بقاء القوات الأميركية لفترة أطول وعدم انسحابها المتسرع فحسب، فالبقاء المؤثر هو الحضور السياسي القوي في مسارات الأحداث وتحمل المسؤولية كاملة كدولة احتلال وعدم الاكتفاء بالتفرج على ثمرة الجهد لإسقاط النظام السابق يقطفها آخرون. فالجنرال أوديرنو على حق في ما ذهب إليه، فموقف إدارة الرئيس أوباما منذ مجيئها لسدة الحكم كان سلبيا، حيث عملت بلهفة لمغادرة العراق ونفض أيديها من شؤونه متجاهلة تماما ما يتسبب عن ذلك من تردي الأوضاع وظهور الميليشيات واستشراء ظاهرة العنف وتعمق الصدع المجتمعي وتفكك الدولة. * كاتب عراقي