د. أحمد عمر هاشم للحديث النبوي الشريف أثره البالغ في بناء ثقافة إسلامية أصيلة، ظلت بمنابعها الثرية، مصدر الإشعاع، لكل الأئمة والعلماء، والمفكرين والباحثين. فلولا الحديث النبوي الشريف، ما عرف المفسرون معاني آيات القرآن الكريم، ولا وقفوا على أسباب النزول. ولولاه ما عرف الفقهاء تفاصيل أحكام الشريعة الإسلامية، ولا الحلال والحرام.. ولولاه ما عرف المسلمون في كل عصر ومصر، أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أفعاله ولا تقاريره ولا صفاته الخلقية والخلقية ولا سيره ولا مغازيه. ولولاه كذلك ما عرف الإسناد الذي هو من خصائص الأمة الإسلامية. وقد تمخضت بحوث العلماء ودراسات الأئمة والمحدثين وسائر المشتغلين بالسنة عن علوم وفنون، واصطلاحات وقواعد كانت بحق قمة ما وصل إليه الفكر البشري في توثيق الأخبار، أو تضعيفها وفي تعديل الرجال، أو تجريحهم.. ودرسوا السند والمتن وقدموا للنقد العلمي أدق الطرق السليمة وأصح ما عرف العلم في القديم والحديث، من النقد الداخلي، والنقد الخارجي. ورتب العلماء دواوين السنة المعتمدة ترتيباً موضوعياً، ورتبوها وبوبوها تبويباً فقهياً، مما يسهل على الباحث والقارئ الوصول إلى طلبه، ومعرفة ما يحتاج إليه من أصول دينه وأحكام الشرع وسائر الآداب والفضائل والأخلاق. ومن هنا كان عطاء ثقافة الحديث شاملاً وعاملاً، استوعب بشكل منقطع النظير كل ما يحتاج إليه الفقيه والأديب واللغوي والمفسر، وعالم الأخلاق، والواعظ والموجه، والعالم والمتعلم، وقامت إلى جوار هذا كله دراسات جادة وعميقة في شرح السنة وما يستنبط من الأحاديث، وما يمكن تطبيقه على الظواهر الاجتماعية الحديثة، وما تحل به مشكلات العصر الحديث المختلفة. وكان رجال السنة أول من ضرب أروع الأمثلة في التواضع للعلم وأخذه ممن هو أهله، حتى وإن كان دونهم في السن أو القدر.. فعرف عنهم أخذ الكبير عن الصغير وروايته عنه، ورواية الآباء عن الأبناء.. وكان من بين علوم المحدثين وبحوثهم: معرفة المتفق والمفترق والمؤتلف والمختلف، والمتشابه، ومعرفة تاريخ الرواة وطبقاتهم والثقات والضعفاء والأوطان والبلدان.. ومعرفة من تقبل روايته ومن لا تقبل، وآداب الرواية، وآداب المحدث وطالب الحديث وطرق التحمل والأداء.. والجرح والتعديل وغير ذلك من البحوث والعلوم التي اعتنى بها علم أصول الحديث.. ومن العجيب بعد كل هذا أن يخرج بعض أعداء السنة، ينادون بدعوى زائفة مغرضة يريدون من ورائها الاقتصار على القرآن الكريم.. وفي هذا بعد عن الدين، بل وبعد عن القرآن نفسه، فإن أهل الحديث هم أعلم الناس بكتاب الله. وتتضح الحاجة إلى السنة في بيانها للقرآن الكريم وتفصيلها لأحكام الدين والإجابة على كل ما تحتاجه الإنسانية في كل زمان ومكان فيما يتصل بالعقيدة والشريعة والأخلاق. ولقد أمر الله تعالى بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أمر بطاعته في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. كما أرسى القرآن قاعدة أساسية في قبول ما جاء في السنة وأن في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله. إذا تبين هذا فليس من الصواب في شيء، أن ينادي أحد ما بالاقتصار على القرآن وحده.. ولقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ستتعرض له سنته الشريفة من تحديات بعض المغرضين، وأصحاب الشبه الواهية التي لا أساس لها. وفي الحديث: ألا إنني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكة يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فعليه أن يعقبهم مثل قراه. ولقد حاول أعداء السنة قديماً وحديثاً أن يستدلوا على دعواهم الزائفة، بخبر موضوع، لا أساس له وهو إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق فخذوه وما خالف فاتركوه. وقد كشف أئمة السنة عن كذب الخبر ووضعه، وأنه قد وضعته الزنادقة ليصلوا إلى ما يريدون من تقويض المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وهو الحديث النبوي الشريف، يقول أئمة الحديث المتضلعون في فهمه: عرضنا هذا الحديث على كتاب الله فوجدناه مخالفاً، لأنا وجدنا في كتاب الله: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ووجدنا فيه: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ووجدنا فيه: من يطع الرسول فقد أطاع الله. ولشدة الحاجة إلى السنة عني أئمة الحديث بالسند والمتن، بتمحيص شديد، وتوثيق بالغ لا مثيل له، فقد نظروا إلى السنة النظرة اللائقة، ففيها بيان لأصول الشريعة وفروعها وتوضيح للقرآن على يد من نزل عليه القرآن كما قال الله تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون. *عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر