يستغرب من يتجول في شوارع فيلادلفيا (ولاية بنسلفانيا) القديمة، حين يرى لافتة تقول: متحف الفلسفة. سيفكر طويلا، ويتساءل: هل يعقل هذا؟ متحف للفلسفة! في الواقع هو متحف فلسفة، وهو الوحيد من نوعه في الولايات المتحدة، ويتبع للجمعية الفلسفية الأميركية، وقد تأسس عام 1786، أي بعد عشر سنوات من تأسيس الولايات المتحدة نفسها. ومع ذلك، لا أحد يدري أن للفلسفة متحف. قبل تأسيسه بأربعين عاما تقريبا، تحول مقر الجمعية الفلسفية الأميركية، إلى «فيلوسوفي هول» (مبنى الفلسفة). وكان واحدا من مبان تاريخية تضم قاعات عدة: «إنديبندانس هول» (مبنى الاستقلال)، حيث أعلن منه الآباء المؤسسون، استقلال الولايات المتحدة. و«كونغرس هول» (مبنى الكونغرس)، حيث عقد الكونغرس جلساته عندما كانت فيلادلفيا عاصمة الولايات المتحدة، إلى أن أصبحت واشنطن هي واشنطن. يضم متحف الفلسفة، وثائق تاريخية عن تلك الفترة من تاريخ الولايات المتحدة. ويقول المسؤول عن المتحف، إنه لا يشبه مكتبة الكونغرس، ولا دار الوثائق الوطنية (الاثنتان في واشنطن العاصمة). و«نحن نسجل (هنا) الآراء، لا التطورات التاريخية». ويضيف المسؤول قائلا إن جمعية الفلسفة الأميركية «تدرس الفلسفة، لا التاريخ. تدرس النظريات، لا السياسات. نحن نؤمن بأن الفلسفة هي التي قادت إلى الأحداث التاريخية. انظر إلى أهم الأحداث في تاريخ العالم. كلها بدأ برأي وجدل ونقاش: الإصلاح الديني، النهضة، التنوير، الرأسمالية، الشيوعية...الخ». وضرب الرجل مثلا على ما اعتبره «آخر حدث تاريخي»، وهو قرار المحكمة الأميركية العليا - التي تفسر الدستور - بدستورية زواج المثليين والمثليات. قال إن الحدث جديد في تاريخ العالم، وليس فقط في تاريخ الولايات المتحدة». وقد سبقته نظريات وفلسفات امتدتقرونا. وقال أيضا، إن في متحف الفلسفة هذا، رسم كرتوني حول الموضوع نشرته صحيفة «بانش» البريطانية عام 1857، بالإضافة إلى مناقشات فلسفية تعود إلى الحضارة اليونانية القديمة. لكن جزءا كبيرا من متحف الفلسفة عن الفلسفة الأميركية، وخاصة عن آراء ومناقشات الآباء المؤسسين، ويسميهم المتحف «الفلاسفة المؤسسين». ففي عام 1743، أي قبل استقلال الولايات المتحدة بعشرين سنة تقريبا، أسس بنجامين فرانكلين، الجمعية الفلسفية الأميركية (في المبنى نفسه). بعد ذلك بأربعين سنة تقريبا، تأسس متحف الفلسفة. ومع تطور التكنولوجيا، بدأ المتحف يربط بين الوثائق الورقية القديمة وبين التطورات الحديثة ويستفيد منها. وذلك بهدف تأكيد فلسفته القائلة بأن «كل حدث تاريخي يسبقه رأي فلسفي» (مثل أن كل حركة يتحركها الشخص يسبقها تفكير فيها). توجد في المتحف أكثر من عشرة ملايين قطعة (معروضة ومخزونة)، بداية بمناقشات فلاسفة يونانيين قدماء مثل أفلاطون، وأرسطو، مرورا بفلاسفة أوروبيين كبار مثل كانت، ونيتشه، وفلاسفة الحرية الأميركية الذين يجري التركيز عليهم، مثل توماس جفرسون، وبنجامين فرانكلين. كما توجد في المتحف كتب نادرة، وخرائط، وصور، واختراعات. بداية باختراعات فرانكلين نفسه (أول نظارة بعدستين، أول عصا معدنية للحماية من الصواعق، أول فرن)، ونهاية باختراع ستيف جوبز، مخترع كومبيوتر «آبل». اعتمادا على شخصية فرانكلين، الذي كان فيلسوفا وسياسيا وعالما، يوضح المتحف، أن الفلسفة يمكن أن تشمل، ليس فقط المناقشات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن، أيضا، الآراء العلمية. يعني هذا، أن تفكير المخترع فيما سوف يخترعه، ومناقشة ذلك مع آخرين، هو، في حد ذاته: «جدل فلسفي». ويعنى هذا، أن ستيف جوبز كان فيلسوفا قبل أن يكون مخترعا. بالإضافة إلى المعروضات، يقدم متحف الفلسفة محاضرات وندوات ومناظرات، مثلا، حول آراء توماس جفرسون عن الهنود الحمر (تسمى «فلسفة التعامل مع المجهول»). وآراء بنجامين فرانكلين عن الطبيعة (تسمى «فلسفة الطبيعة»، وبالتالي فرانلكين «فيلسوف طبيعي»، وهو ما يعادل «عالم» في التعريف المعاصر). ويظل متحف الفلسفة في فيلادلفيا، الأعرق والوحيد، لكن ثمة نقاش يدور هذه الأيام، حول تأسيس متاحف «حديثة». قبل أربعين عاما تقريبا، أسست جامعة بيس (نيويورك) متحفا صغيرا للفلسفة، لكنه لم يستمر طويلا. وحاليا، يسعى قسم الفلسفة في الجامعة، لإعادة الحياة إليه، لأن الكثير من محتويات المتحف القديم، وضعت في مخازن، ويصر أساتذة في قسم الفلسفة بأن المتحف «موجود فلسفيا». أما ما سيكون عليه متحف بيس عندما يصبح حقيقة، فقد اقترحت أستاذة في قسم الفلسفة في بيس، ما يقدم لنا بعضا من صورته: أولا: تصميم كامل لكهف الفيلسوف اليوناني القديم أفلاطون، يدخل فيه الناس، ويجلسون، ويتناقشون، كما كان يحدث في أيامه. ثانيا: وضع تماثيل لعمالقة الفلسفة اليونان القدماء الثلاثة: سقراط، (أستاذ أفلاطون)، وأفلاطون، وأرسطو (تلميذ أفلاطون). ثالثا: تصميم قاعة محاكمة سقراط، ثم سجنه، ثم رفضه الهروب من السجن، ثم شربه السم القاتل. رابعا: تصميم قاعة محاكمة جهاز كومبيوتر. خامسا: طاولة وكراسي ملونة لونا برتقاليا، أو لونا فضيا (رمز الفليسوفة الألمانية حنا ارندت وفلسفتها بأهمية فصل العمل عن الإنتاج). سادسا: قاعة عرض صغيرة عن جدلية الفيلسوف الألماني كانت. سابعا: قاعة باللغة الصينية عن تاريخ فلسفة الصين. غير أن جامعة بيس، لم تحدد تاريخا لتحويل المتحف من فلسفي (نظري) إلى عملي (واقعي). في كل الحالات، يردد أساتذة قسم الفلسفة أمام تلاميذهم، بأن النقاش الحالي حول المتحف، هو أحسن تعريف للفلسفة التي يجب أن تسبق أي حدث.