لا يمكن لأحد أن يتجاهل إحدى المسَلّمات الشائعة في علوماللسانياتوالمتعلقة بكوناللغة العربية هي من أكثر اللغات السامية المعروفة سعة فيالانتشار، إذ تُحدثنا الإحصاءات أن هناك سبعمئة وواحدا وعشرين مليونا ممن يتحدثون العربية، ناهيك عن أن ما يقارب نصف هذا العدد يدرك اللغة ويتعبد بها. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بحذر ومصداقية يستند إلى الدواعي التي جعلت منها لغة مهمة دون غيرها من اللغات السامية الأخرى، خصوصا وأنها لعبت دورا بارزا حضاريا وثقافيا في العصور الوسطى من خلال نقلها إلى اللغات الأجنبية المعارف الإنسانية والعلوم الأساسية. هناك نظرية تستوحي أهمية اللغة العربية قبل أن تستلهم عنفوان وجودها وأهميتها بنزول القرآن الكريم، إذ تقول إن أقدم الكتابات العربية قد تم اكتشافها في الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية وتعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، إذ كانت مكتوبة بالخط المسندي، فيا تُرى ما هو هذا الخط؟ وما مدى علاقته باللغة الكاذماتية التي اشتقت منها اللغة العربية في نظرية أخرى، والتي تم العثور على نقوشها في فلسطين في القرن العاشر قبل الميلاد؟ " هناك نظرية تستوحي أهمية اللغة العربية قبل أن تستلهم عنفوان وجودها وأهميتها بنزول القرآن الكريم، إذ تقول إن أقدم الكتابات العربية قد تم اكتشافها في الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، إذ كانت مكتوبة بالخط المسندي " لعلنا حين نتحدث عن اللغات وأصولها ومعطياتها ومؤثراتها نكون أكثر دقة إذا ما ناقشنا حوافرها وأساسياتها. فاللغات السامية بأساسياتها الشرقية والجنوبية تعود بحسب النظريات التي وصلتنا إلى أنها نشأت في أفريقيا وانتقلت عبر الجزيرة العربية إلى الدول المحيطة غرب الدلتا والتي تعرف الآن بمنطقة الشرق الأوسط. على أن هناك نظرية أخرى تؤمن بأن اللغة السامية نشأت وتطورت وانطلقت من الجزيرة العربية، في حين أن هناك من يدّعي أنها نشأت في الهلال الخصيب وانتشرت منها جنوبا وشمالا. وأيا يكن هذا، فالسامية التي انطلقت منها العربية مع اللغات الأخرى كالأمهرية والسريانية والمندائية وغيرها، لم تخرج من محيط الدول الحالية التي يقطنها العرب الآن، وانطلقت منهم مع الإسلام إلى شتى بقاع العالم لتنقل الحضارة والعلوم. فالتطور في اللغة بما لا يقبل الشك يطوِّر الأقوام وينتج ثقافات جديدة مبنية على المعطيات البيئية والاجتماعية المنعكسة على الواقع المعاش. فقد تكون اللغة السامية أول لغة في منطقة وجودها ونشأتها، إلا أنها سرعان ما تطورت لتصبح لغات سامية وسطى وجنوبية وغربية وجنوبية شرقية وغربية شرقية وغيرها من المسميات. واقترنت بها لغات كثيرة عُرفت بها حضارات مهمة. فعلى سبيل المثال، هناك اللغة السامية الشرقية التي اقترنت بها الأكدية والبابلية الآشورية والإيبلاوية. ونحن هنا لسنا بصدد تصنيف اللغات وعلاقتها باللغة السامية وأصولها بقدر ما وددنا أن نخترق أتون الفحص اللغوي، لنبين في نهاية المطاف ما للغة من أثر في التطور الحضاري والمعرفي. فكلما استجد الحال وتطور استجدت اللغة وتطورت وصارت تبحث عن سبل إيجاد معاني الكلمات وصورها التي دخلت على اللغة أو كانت موجودة ولكن غير مستخدمة مسبقا. بعد أن ذكرنا اللغة الكاذماتية وعلاقتها باللغة العربية، يمكننا أن نجمل حقيقة مفادها أن الكنعانيين كانوا يتحدثون بها منذ عصور كثيرة قبل الميلاد. وضمن التصنيف اللساني، تعتبر اللغة التي كان يتحدث بها الكنعانيون لغة تنتمي إلى السامية الشمالية الغربية التي تلتقي معها اللغة الآرامية بمفردات وقواسم مشتركة كبيرة. فعلاوة على أنها لغة حية ولغة دين، فقد أنجبت من خلالها الآرامية الشرقية والآرامية المسيحية الشامية والآرامية المسيحية الفلسطينية والسامرية والفينيقية والأدومية والعبرية وغيرها من اللغات التي اندثرت تاركة أثرا ثقافيا، وربما دينيا أو حضاريا. وعليه، فإن العلاقة بين ما وجد من أصول للغة العربية من طراز الخط المسندي وبين الكاذماتية، تبين أن أصولهما واحدة ولكن لكل منهما أثره في التطور الحضاري والعلمي والبشري. إن التأكيد على الخط المسندي دون غيره لم يأتِ من فراغ، ففي القرن الثامن قبل الميلاد وجد المنقبون في كل من الجزيرة العربية والعراق وسيناء، نماذج من هذا الخط يعود للفترة ما بين القرن الميلادي الأول والقرن الرابع الميلادي، وهو امتداد جغرافي لانتقال اللغة من الجزيرة إلى سيناء وما يحيط بها أو العكس. " اللغة هي المعبر الحقيقي للقوة التي تستند إليها أية حضارة تريد لنفسها البقاء. ومن هذا المنطلق، لا بد لنا أن نطور اللغة العربية التي نزل بها وكرمها القرآن الكريم، مع الاستفادة منها في نقل العلوم وتقبلها لتضفي الجديد المتجدد على لغتنا العربية الجميلة " لأن هذا التقسيم الجغرافي ضمّ الجزيرة والهلال الخصيب وما يحيط به من دول، وهو ما يعني أنها حلقة مربوطة بعضها ببعض وتطورت لغاتها ضمن تطور المجتمع وتراكم المعرفة عند البشر الذين يقطنون تلك المنطقة. ولعل هذا الانتشار للغة السامية وفروعها كان له مردوده الأساسي المتولّد عن كونها اللغة الأولى التي استخدمت الأبجدية في كتاباتها ومنها انتقلت إلى اليونانية واللاتينية، ناهيك عن اللغات المشتقة منها والتي اقترن اسمها بحضارة تركت أثرا كان آخرها اكتشاف كتابات أكدية سامية تعود للألفية الثالثة قبل الميلاد، أي ما يقارب الخمسة آلاف سنة. وبهذا، تعتبر اللغة الأكدية السامية ذات العلاقة القوية باللغة العربية بمفرداتها ونصوصها من أقدم اللغات المكتوبة عالميا. ولولا ديناميكية التطور اللغوي المتفاعلة مع الواقع ما كان للغة السامية أن تتطور وتبقى كل هذه العصور وتنتج الحضارات، التي نعتقد أن أصولها عربية وليس العكس لأنها لو كانت غير عربية أصلا لاندثرت، وزال كل ما نتج منها. فاللغة العربية لم تكتف بالخط المسندي والأبجدية الأولى، بل إن تفاعلها خلق منها حالة لغوية جديدة مع واقع التطور البيئي لتنتج خطوطا أخرى تستخدم في الكتابة. فعلى سبيل المثال، ما وصلنا من التنقيب يبين أن هناك خطوطا كانت تُستخدم في الجزيرة العربية ما عدا المسندي، وقت كان الكنعانيون يستخدمونها حين ولادة اللغة العربية (الكاذماتية) التي اشتقت منها السامية. ولعل من أهم هذه الخطوط: الحسائية واللحيانية والصفائية والثمودية والنبطية والديدانية، وكل منها كان مقترنا بواقع حال وبحضارة خاصة. وعليه، فإن اللغة هي المعبر الحقيقي للقوة التي تستند إليها أية حضارة تريد لنفسها البقاء. ومن هذا المنطلق، لا بد لنا أن نطوّر اللغة العربية التي نزل بها وكرّمها القرآن الكريم، والاستفادة منها في نقل العلوم وتقبلها لتضفي الجديد المتجدد على لغتنا العربية الجميلة.