مضى عام 2015 ومثله سيمضي العام 2016 مثلما مضت أعوام تلو أعوام. هذه لعبة الزمن الذي لا يرجع إلى الوراء ماحياً أمنيات كثرة من البشر يتملكها الحنين إلى ماض فقدته. يمضي الزمن إلى الأمام ساحقاً سنوات وعقوداً، جاعلاً منها ركام ذكريات. لكنّ السنة التي هي أقل من ذرة غبار في فضاء الزمن الرهيب تظل في نظر أهل الأرض فسحة حياة وأمل، فهي تمثل حال عبور من الآني إلى الأبدي في نظر بعضهم، أو من الوجود إلى العدم، في نظر بعض آخر. كلما مضت سنة وأقبلت أخرى أجد نفسي أمام أسئلة وجودية، عميقة ومحرجة. وما من مرة سعيت للبحث عن أجوبة لها، وهي أصلاً لا أجوبة نهائية لها، لا لدى المؤمنين ولا لدى الملحدين ولا لدى اللاأدريين الذين هم في مرتبة البين بين. «لنزرع حديقتنا». جملة المفكر فولتير هذه علقت في ذاكرتي منذ أن قرأت كتابه البديع «كانديد»، وهي بحق تمثل ما يشبه الجواب المفتوح الذي يرضي الجميع، حتى المتشائمين منهم. الحديقة هذه هي جوهر الوجود والزمن، وزراعتها مواجهة حقيقية لتراجيديا الوجود أو نعمته على السواء. وكم أصاب الشاعر محمود درويش في قوله: «على الأرض ما يستحق الحياة». وفي قلب الزمن ما يستحق الوجود أو العبور. لحظة وعي الزمن تزيل خطر المضي إلى الأمام وخوف النظرة إلى الوراء. *** عشية انصرام العام 2015 تلقّى محبو المطربة الكبيرة فيروز، وما أكثرهم، لبنانيين وعرباً، هدية جميلة هي أغنية صغيرة من أربعة أسطر تتمنى فيها سنة سعيدة للجميع. ووزعت المخرجة ريما رحباني الأغنية المصورة عبر اليوتيوب، وحصدت للفور أرقاماً عالية من المشاهدة. والأغنية تذكر، موسيقى وكلمات، بالجو الميلادي الذي تجلى في الأسطوانة الميلادية الحديثة التي كان أنجزها الفنان الكبير زياد الرحباني سابقاً وأدت فيروز فيها باقة من التراتيل والأغاني الميلادية الشرقية والغربية في صيغة موسيقية بديعة، حديثة ومحدثة، ذاب فيها صوتها رهافة وشفافية. الأغنية القصيرة ملؤها الحنين إلى الزمن «الميلادي» الفيروزي، إلى ثلج الشتاء ونقاوته وإلى طلوع فجر سنة جديدة لحظة غروب سنة مضت للتو، سنة «لا نعرف كيف تكون» كما تقول الكلمات. وما تتمناه فيروز وتمنته دوماً، هو السلام يحل على الأرض وبين البشر، والأمل يشرق كضوء وسط ظلام المآسي والحروب. وتطل فيروز بوجهها في الأغنية التي صوّرتها ريما تضيء شموعاً وتؤدي الأغنية في ما يشبه اللمحة البارقة. ولعل هذه الأغنية أجمل رد على الوشاية السخيفة التي أُطلقت أخيراً والتي لم تكن تستحق أي رد فعل نظراً إلى دناءتها وصغارتها. لا نحتاج إلى ترداد القول أنّ فيروز نجمة ورمز وأيقونة وأنها مطربة كبيرة التزمت الإنسان والجماعة مثلما التزمت قضية وطنها وشعبها وكانت دوماً مناهضة للحرب والعنف وداعية إلى السلام ومترفعة عن السياسة في ما تعني من طائفية وانقسام وانقياد... كانت فيروز دوماً فوق الزعامة والسلطة والأحزاب والطوائف وستظل تماماً مثلما سيظل صوتها، المرجع والمآل وشجرة السماء التي تلقي ظلالها على الجميع. لم تكن تلك الوشاية الرخيصة تستحق أن تُعطى اهتماماً بتاتاً، كان يجب أن تهمل وترمى في سلة المهملات. وبدا واضحاً أن من وراءها لم يكن يبغي إلا اصطياد الأوهام... وكم أصاب الذين مدحوا فيروز من دون أن يذكروه أو يذكّروا به. وكم أصاب الكاتب سمير عطالله في اختياره إياها شخصية العام. إنها شخصية الأعوام كلها، في أغانيها، في صلواتها، في عزلتها وفي صمتها الجميل الذي لا تكسره إلا حين ينبغي. *** خلال العام المنصرم شغلتني صورة رهيبة، برقتها وقسوتها، هي صورة الطفل السوري إيلان ممدداً على أحد الشواطئ التركية ببراءة ملاك وافاه النعاس غفلة. هذه الصورة لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة والعينين. طفل لفظه البحر بعدما قلبت أمواجه المركب الذي استقلته الأسرة الفقيرة هرباً من الحرب ونيرانها وقذائفها وبحثاً عن زاوية آمنة في العالم الكبير. لكنّ البحر غص بجسد هذا الطفل الصغير فرماه رافضاً عبوره إلى أرض الخلاص، أرض الأوهام السعيدة. صورة الطفل إيلان قد تكون هي الحدث الثقافي الأقوى خلال العام 2015. حدث يحمل بنفسه أقصى معاني الألم. هذه صرخة مدوية بصمتها ضد الحروب وصانعيها، ضد العالم، ضد الغرب العظيم الذي يتجاهل قتل أطفالنا.