< لن تجد الكثير من الجدل حول أهمية وجود القوانين في أي مجتمع، فضرورتها كضرورة التنفس والأكل والشرب. وصفها أفلاطون بالقيد الذهبي، لأنها فعلاً قيد، ولكنه مهم ونفيس. بلادنا مقبلة على الكثير من الإجراءات التي يفترض أن تدفع بنا كمجتمع إلى مستويات غير مسبوقة من المسؤولية، حتى نتجاوز المرحلة الانتقالية، وننتقل إلى العمل والإنتاج. لا بد من ضبط الإيقاع من خلال فرض هيبة القانون، المشكلة لدينا في المملكة ليس فقط غياب بعض القوانين المهمة، بل عدم تطبيق بعض الأنظمة القائمة إلا في أضيق الحالات. لدينا نظام للسير على سبيل المثال، لكننا لا نفعله. يوجد الكثير من الغش الموجه للمستهلك ولم نتحرك إلا في العامين الأخيرين للتصدي له بسبب وجود وزير يعي المسؤولية واستطاع تحطيم وهم حرمة التشهير ونشر أسماء من خانوا الأمانة، لدينا قوانين ما يعرف بالجرائم الإلكترونية، لكننا لا نطبقها كما يجب، والشاهد على ذلك هذا الكم الهائل من التكفير، والقذف، والسخرية، والشخصنة المقيتة في وسائل التواصل الاجتماعي. من هنا تبرز أهمية التطبيق وضرورة مراجعة الآليات إن وجدت، أو وضع آليات جديدة. بعض خطباء المساجد وبعض رموز ما تبقى من الصحوة ما زالوا ينفثون السموم ويتسلطون على فئات عزيزة من طوائف المجتمع السعودي الكبير، من دون أن يحاسبهم أحد. وإن وجد هذا الحساب فهو لا يتعدى إيقافه عن وظيفته. هنا نتحدث عن غياب «قانون الوحدة الوطنية» الذي رفض مجلس الشورى مناقشته في شهر شعبان الماضي، قبل ذلك رفض المجلس نفسه وربما الكتلة نفسها بداخله، مناقشة قانون خاص بالتحرش الجنسي قد يؤدي إلى تجريم المتحرش وتثبيت الواقعة في سجله المدني، مما سيؤثر في سيرته الذاتية ومستقبله. بمعنى أن أمور التحرش قد تصبح تحت السيطرة والضبط والرادع الأخلاقي والعقوبات. ويا سبحان الله أي ضمير يمتلكه من صوت ضد مناقشة مثل هذه القوانين؟ إلى متى يريدوننا منشغلين بمغامرات الشباب وتهور بعض رجال الهيئة والمناداة المتخلفة بمنع الاختلاط من دون وجود أمل لنهاية هذه الدراما المملة في هذا العصر؟ في المقابل وليس عنا ببعيد، ألقت شرطة دبي القبض على مواطن يُدعى (ع.س)، تهكم في فيديو انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي على أعياد غير المسلمين، وأساء إليها بإشارات مخلة. وظهر المتهم في الفيديو، وهو يتحدث أمام ميكروفون وشخص آخر يصوره، ويطلب منه توجيه رسالة إلى المحتفلين بأعياد الكريسماس، فأساء إليهم لفظاً وبإشارات بذيئة وتمنى أن يذهبوا إلى جهنم وبئس المصير. قال القائد العام لشرطة دبي اللواء خميس المزينة: «إنه تم اتخاذ الإجراءات القانونية حيال المتهم، وفق القانون رقم (2) لسنة 2015 بشأن مكافحة التمييز والكراهية، الذي ينص على تجريم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان، ومقدساتها ومكافحة أشكال التمييز كافة، ونبذ خطاب الكراهية عبر مختلف وسائل وطرق التعبير»، مشيراً إلى إحالة المتهم إلى الجهات القضائية المختصة لاستكمال التحقيقات معه. مجرد تساؤل بسيط: كم (ع.س) لدينا في المملكة؟ وهل نحلم بوجود مثل هذا الحزم والتصميم في بلادنا؟ هناك بالطبع من سيقول ما الحاجة لهذا القانون في المملكة، والنظام الأساسي للحكم ينص صراحةً على عدم التفريق بين الناس لأسباب عرقية أو مذهبية؟ هذا نص المادة الـ12 في النظام: «تعزيز الوحدة الوطنية واجب، وتمنع الدولة كل ما يؤدي للفرقة والفتنة والانقسام». جميل لكن المادة لم تشرح طبيعة هذه الأفعال أو الأقوال التي قد تؤدي للفرقة والانقسام، فضلاً عن العقوبات الخاصة بمن يدان بها شرعاً. هذا ليس قصراً على النظام الأساسي للحكم في المملكة. الذي يجب أن ندركه أن مواد النظام الأساسي تشبه ما يعرف بالمواد الدستورية، وتحتاج إلى قوانين لاحقة تحدد الجرم والعقوبات تماماً مثل السير، فجميعنا يعلم أن السرعة خطر كبير وتقع في خانة إلقاء الأنفس إلى التهلكة التي حرمها القرآن الكريم قبل كل شيء، لكن ذلك لا يكفي ولذا وضعت الدولة النظام والعقوبات المالية وغيرها. وبهذه المناسبة فلو يطلع منكم أحد على نظام المرور في المملكة فسيقف شعر رأسه من كثرة التفاصيل في مواده، ومع ذلك وصلت بنا الحال التي وصلنا إليها، نظام كامل وشامل، لكن لا يطبقه أحد على الأرض، إذاً فنحن لم نفعل شيئاً. كل ما تحدثت عنه هنا مرتبط بشكل أو بآخر ببرنامج التحول الوطني المنتظر، سواءً أكان حديثنا عما يدور في الداخل من تطوير لمنهج العمل وتطبيق مبادئ الثواب والعقاب، أم ما يخص جلب وإغراء الاستثمارات الأجنبية. إضافة إلى بعض الأخوة في الشورى، علينا أن ندرك أيضاً وجود البعض ممن قد يزعجه هذا التحول وقد يعمل على خلق العراقيل بأي طريقة كانت. هذا هو الذي دفعني لكتابة هذه المقالة. مثل هؤلاء -وللأسف الشديد- موجودون بيننا علانية وليس بالخفاء، ولا تهمهم تنمية الوطن بقدر ما يهمهم البقاء في مناصبهم وحصد المكتسبات الضيقة ومعارضة القوانين والمبادرات التي قد يرونها سبباً في تحجيمهم. القانون والعقوبات وحدها هي التي يمكن أن تلجم أفواههم وتقيد أيديهم؛ لأنهم وبحسب مفردات النظام التي ننتقيها، قد يقعون في موقع الخيانة، كالذي يعرقل سير التحاكم أمام القضاء. تم الحديث عن السماح بافتتاح دور للسينما، والمرأة بقيادة سيارتها، وعلى المشاركة ببناء مدن ترفيهية ضخمة على غرار «ديزني لاند» وغيرها، وهذا رائع ومطلوب، سواءً لمتعة العائلة والترويج عنها أم لرفع مستويات الإنفاق الداخلي، لكن جميعنا أيضاً يعلم أن من أشرت لهم يتوجسون من سماع هذه الأخبار، وسيركبون مطية «التغريب» والتحذير في محاولة منهم لإفشال هذه المشاريع والبرامج، وقد فعلوها في كل مناسبة فرح، وما الجنادرية وما يثار من جدل حولها عنا ببعيد. فهل سنقف مكتوفي الأيدي ونتجرع الفشل كما تجرعناه على مدى العقود الأربعة الماضية؛ بسبب هؤلاء أنفسهم؟ أليس هذا الفشل هو السبب في هجرة وهرب الكثيرون من مدننا في كل إجازة وإنفاق البليونات في الخارج وحرمان الدورة الداخلية منها؟ أخيراً وكما أشرت في مقالة سابقة، من أهم أسباب تدني مرتبة المملكة في قائمة الدول الأكثر جذباً للاستثمارات هو ضبابية القوانين، وهذا نتيجة بحث ودراسات أعدها البنك الدولي. هناك دراسات أخرى تخرج من وقت لآخر تضع بعض مدننا في ذيل قائمة المدن التي تحمل السعادة لقاطنيها. اليوم، ليس فقط الاستثمار الأجنبي ما يعنينا، بل كل ما يخص التحول الوطني من استثمارات، وتطوير، ومبادرات، وخلق فرص عمل. فرض القوانين هو المحفز الأول بعد توفيق الله للسلم الاجتماعي ولخلق المناخ الملائم المستديم نحو نهضة كبرى ينتظرها هذا الوطن وشعبه بعد عقود عدة من ضياع الفرص. * كاتب سعودي. F_Deghaither@