كمال الرياحي-تونس بـألواح يواصل الروائي اللبناني رشيد الضعيف تجربته الروائية الفريدة لتشكل زاوية مضيئة من المكتبة الروائية العربية المعاصرة، زاوية حداثية عرفها القارئ العربي في أعمال الضعيف منذ روايته الأولى، يحاول كل مرة المغامرة بالسرد في منطقة جديدة محرجة. يغامر الضعيف في التراث بروايته معبد ينجح في بغداد ويغامر في طرح أسئلة الشرق والغرب الأكثر جرأة في روايته عودة الألماني إلى رشده ومقاربا الحرب اللبنانية من زاوية مخصوصة تميزه عن بقية الرواية اللبنانية المنشغلة بها في أعماله ليرنينغ إنغلش والمستبد. في ألواح نقترب من عالم كتابة السيرة الذاتية من جديد، فالجهاز الإلكتروني الحميمي الذي كتب عليه يذكرنا بدفاتر اليوميات الخاصة التي تقطع مع صرامة اللحظة الإبداعية وطقوسها الكلاسيكية للكتاب ليندفع عبره رشيد الضعيف في سرد اعترافاته. ألاعيب الاعتراف المشبوه ينطلق الراوي في ألواح بنزع اليقين عن الآخرين باعتبارهم يملكون الحقيقة، فلا أحد يعرف أحد ولا ذلك الأحد نفسه يعرف حقيقته. هكذا ينطلق رشيد الضعيف في رواية تبدو سيرة ذاتية مهد لها بميثاق تخييلي سيري عنوان فصل أول، حقيقتي، لينهيه قائلا على لسان الراوي لا أحد يعرفني على حقيقتي، ولا أنا نفسي أعرف نفسي على حقيقتها، بهذا الاعتراف يكون الراوي قد قذفنا في عالم التخييل، ففي عالم التخييل النسبي ليس هناك من معنى للحقيقة. غير أن رشيد الضعيف سرعان ما يعود ليرمي بفخاخه التي عرفناها في روايات سابقة متعلقة بالسيرة الذاتية، فالراوي روائي ويشتغل بالتعليم واسمه رشيد ولقبه الضعيف، ومن مواليد لبنان سنة 1945 فكيف النجاة من سيرة رشيد الضعيف الروائي ورشيد الراوي يحاول أن يستولي على كل ذاكرته وأشيائه ومتعلقاته؟ إن رشيد الضعيف بهذا العمل يلعب لعبة الظهور والتخفي مع القارئ الفضولي، القارئ الذي حسمت فيه المدونات النقدية المنشغلة به باعتباره كائنا متجسسا، وها هو رشيد الضعيف في رواية أخرى بعد ليرننيغ إنغلش وعودة الألماني إلى رشده يسقطه في الشرك عندما ينزع منه ذلك الاكتشاف بوهم الاعتراف. يقول في نص له بجريدة السفير دونت على هذه الألواح عددا من الأحداث التي تطفو على سطح ذاكرتي عند كل تجربة صعبة أمر بها وأضطر إلى عيش صعوبتها، فكلما مررت بتجربة مهلكة تطفو على سطح ذاكرتي أحداث بعينها، تصيدت هذه الأحداث ودونتها وكان هذا الكتاب.. ثمة أحداث لم تحدث، لكنها لو حدثت لكانت حدثت كما دونتها، ألواح هذا الكتاب من سيرة ذاتية، بل أكثر. وهذه المخاتلة التي تظهر في تصريحاته عن الكتاب تدفع القراء نحو تلقي الكتاب باعتباره سيرة ذاتية ولكن بكلمة واحدة يسقط هذا الميثاق السير ذاتي ليورط القراء من جديد في ميثاق تخييلي. الاسم الجريد واللقب القبيح يواجه رشيد الضعيف الحميمي من السيري فيستعيد أزمة الاسم واللقب ليكتب سيرة الاسم الجريح، فالاسم الصغير بارد حتى أنه لا أحد غنجه به بينما اللقب مأزق يهاجمه في الشارع وفي الحياة الطلابية وحتى في الجامعة وهو يتسلم عمله كأستاذ، فلا دلالة أخرى لكلمة ضعيف غير العجز والنقصان. هذا الاسم الذي حمله على كتفيه مثل القدر الثقيل جعله ضعيفا ويخرج له الأعداء كما يقول الراوي في الفصل الأول من كل مكان حتى من اسمه. إن الالتفات إلى الاسم وثقله يمثل إحدى العلامات الذكية في هذه الرواية السيرية لأنه سؤال نفساني وفلسفي يمكننا أن نحلل به شخصية الإنسان ويمكن أن نتوقع مستقبله من خلاله، فلا يمكن أن نصنع شيئا خارج أسمائنا. يلتفت الضعيف إلى الأشخاص الأكثر حميمية وقربا منه وهما الأب والأم ليعري هذه المؤسسة في روايته إخفاقات الأب وأسرار الأم. إن رشيد الضعيف في هذه الرواية يلهو كطفل بتوجيه مشرطه لكل من حوله الاسم الذي حمله أو الأب الذي جاء من صلبه أو الأم التي أنجبته أو الجد الغريب الذي علمه الغناء والنفخ علي الناي، إنه في بحث متواصل عن حقيقته التي ضيعها من خلال التعرف على الآخرين متناسيا أنه انطلق من يقين أن لا أحد يعرف حقيقة آخر ولا حتى حقيقته. ألواح الطفولة يصل الكتاب ذروته الإبداعية عندما تصل الذاكرة إلى معين الاختلاف أي التجربة الذاتية المحضة الطفولة ليروي رشيد الضعيف طرائف وتجارب مر بها كانت قد شكلت في ما بعد شخصيته ومواقفه واتجاهه الأيديولوجي. فتجربة العزف على الناي في الأعراس ورفضه تلك الأموال التي كانت ترمى عليه جعلاه يكتشف عزة النفس وأنه خلق لأمر آخر غير هذا المقام، ولم يرضخ الطفل للفقر الذي حوله إلى غنيمة وقيمة يقيس بها مدى عمق الإنسان وهكذا اختار تياره الأيديولوجي المناهض للبرجوازية على الرغم من أنه ظل في شبابه يرفض أن يشتغل أعمالا يدوية لإعانة العائلة، ويقول إنه ولد ليكون أميرا يخدم ولا يخدم، وإنه لا يراهن إلا على المعرفة والعلم. ويأخذنا الكتاب السيري إلى السجل السري لنشأة القسوة عند الضعيف من خلال علاقته وهو طفل بالحيوانات، حيث كان مغرما بتعذيبها وقتلها من كلاب ونمل وضفادع وصراصير وعلق وعصافير وذباب والبرغشة والسلاحف، ويروي الضعيف في صفحات قصصا وحكايات عن فنون القنص والإبادة التي يخترعها ورفاقه لهذه الكائنات الضعيفة وكأنهم بذلك يتدربون على القسوة ليكونوا مثل جده أجلافا وقساة مع العالم ومع النساء. هكذا يلامس الضعيف تشكل المجتمع الذكوري ولاوعيه بطريقة مختلفة تبحث في نشأته وحاضنته الأولى. إننا في هذه الرواية أمام ما سماه سارج دبروفسكي منذ السبعينيات التخييل الذاتي، وهو نوع أدبي منشق عن الرواية متقاطع مع الكتابة الأوتوبايوغرافية ومشتق منها من دون أن يكون سيرة.