بقي توزيع دخل ثابت مضمون للناس يلبي حاجاتهم ورفاهيتهم، لب الأفكار الخيالية «الطوباوية» التي راودت أذهان الفلاسفة، والمفكرين، والمصلحين الاجتماعيين، والاقتصاديين، منذ عهد إفلاطون حتى يومنا هذا لكن هذا الحلم الإنساني لم يتحقق أبدا على نحو دائم منذ آلاف السنين، ويبدو أنه سيذهب مع الريح في أحدث سعي لتحقيقه في بلاد الثراء سويسرا. وقدم البرلمان السويسري الأسبوع الماضي توصية للحكومة تدعو إلى رفض مبادرة شعبية سويسرية بهذا الصدد، وعدم منح دخل أساسي غير مشروط لجميع من يقطن في البلاد، سويسري أم غير سويسري، يعمل أو لا يعمل، حاملا شعار «الأجور مقابل العمل، وليس للتقاعس مكان في سويسرا». وإذا كان مجلس النواب قد رفض المبادرة صراحة، فإن مجلس الشيوخ رفضها ضمنا، لكن أيا كان الأمر، فالكلمة الأخيرة لتحقيق هذا الحلم ستكون للشعب عبر تصويت شعبي سيتم تحديد موعده في العام الحالي، وقد رفض البرلمان المبادرة بـ 146 صوتا مقابل 14 صوتا، وامتناع 12. وحسب الدستور السويسري، يحق لأي مواطن التقدم بمبادرة شعبية يتم طرحها للتصويت العام لإقرار قانون جديد أو تعديل قانون قائم، بشرط أن يجمع 100 ألف توقيع تؤيد مبادرته، ولن تأخذ المبادرة قوة القانون إلا إذا نالت موافقة أكثر مِن نصف المصوتين في البلاد وأكثر مِن نصف عدد المقاطعات السويسرية الـ 26. ولا تهدف المبادرة إلى وضع حد أدنى للأجور، بل هي تضع معايير أعلى لدخول الناس، عاملين وغير عاملين، وذلك بمنح 2500 فرنك سويسري (2631 دولار) شهريا لكل مواطن، ولكل مقيم في البلاد بصورة مشروعة، سواء كان يعمل أم لا، فقيرا أم غنيًا، بصحة جيدة أو مريضًا، يعيش وحده أو مع أسرته، ومنح 625 فرنكا (657 دولارا) في الشهر لأقرانهم ممن هم دون 18 عاما، وأن المبلغ وترتيبات التمويل ينبغي أن يتم وضعهما في تشريع، كي تبقيان قائمتين دون إلغاء. وهكذا تضمن المبادرة دخلا سنويا عاليا للأفراد، فأسرة تتكون من شخصين بالغين وطفلين، على سبيل المثال، ستتلقى 75 ألف فرنك (83.3 ألف دولار) سنويا مِن دون قيد أو شرط، هذا بخلاف ما يحصل عليه البالغان في الأسرة من عملهما الأصلي، والمبلغ الإضافي كافٍ في حد ذاته للعيش بتواضع دون الاضطرار إلى العمل. المبادرة تقلب النظام الاجتماعي السويسري رأسا على عقب، فبدلا من شبكة التأمينات الاجتماعية التقليدية الواسعة في البلاد، كصندوق مدفوعات العاطلين عن العمل، وصندوق المعوقين، وصندوق المتقاعدين، ومكاتب المعونات الاجتماعية، وصناديق قروض الإسكان، وغيرها، ستدفع الحكومة لكل شخص راتبا ثابتا يؤهله للعيش به فوق ما يحصل عليه من عمله، ولن يحتاج بعد ذلك للتوجه إلى الصناديق الاجتماعية في حالة عطله، أو إصابته بعائق يمنعه عن العمل جزئيا أو كليا. وبحسب ما جاء في نص المشروع، فإن فوائد المبادرة جلية، لأنها ستقضي على الفقر، وتساعد على جعل سويسرا واحدة من أغنى البلدان في العالم حسب نصيب الفرد من الدخل، وتستقطب العقول والكفاءات من مختلف العالم، وتسمح للسكان بعيش حياة كريمة، وتمنحهم الأمن النفسي والاجتماعي. ويقول أصحاب المبادرة، إن توزيع الإنفاق العام للسكان على القطاعات الحياتية والاقتصادية غير متوازن، فهناك قطاعات أساسية تتلقى المزيد من أموال الاستهلاك، وأخرى أساسية أيضا كالقطاعات الثقافية والفنية تتلقى قدرا ضئيلا من الإنفاق. ويعتقد هؤلاء أن المبادرة ستزيد من انغماس الناس في الحياة العامة كارتياد المسارح، والمطاعم، والمتاحف، والحفلات الموسيقية، وممارسة الهوايات الرياضية، والاشتراك في النوادي الرياضية والمعاهد الموسيقية، وشراء الكتب وحضور الندوات والمناقشات الثقافية غير المجانية، كما ستزيد من توجه الناس نحو اكتشاف الحياة الإبداعية كالتركيز على الفنون، بشكل خاص، وجميع هذه النشاطات تساعد في تهدئة النفوس وتهذيبها. وتستغني المبادرة عن مؤسسات المعونات الاجتماعية الحكومية ونفقاتها الهائلة مِن رواتب الموظفين، وإيجارات المباني، واستهلاك الكهرباء والكراسي والمناضد...إلخ، وتحد من سلطة المكاتب الحكومية (البيروقراطية)، وتلغي الحاجة لوضع حد أدنى للأجور، وتقضي على البطالة تماما، وترفع من معدلات الطلب على العمل، وستتيح لأولئك الذين اعتمدوا لسنوات طويلة على شبكة المعونة الاجتماعية بالوقوف على أقدامهم مرة أخرى، وترفع الطلب على التعليم العالي، وتقلِّص الأمراض النفسية واستهلاك الأدوية، وتحسن الصحة العامة للناس عموما، وتخفض الإنفاق على المستشفيات، وتسمح بإنشاء نطاقات من الحريات الاقتصادية، وتزيد من عدد المشاريع الإنتاجية والاستثمار، وتحقّق المزيد من المرونة والاستقلالية الاقتصادية للأفراد، كما أنها تساعد في القضاء على النمو السلبي للسكان وذلك بتشجيع السويسريين على الإنجاب، مما يؤدي إلى تقليص عدد تجنيس الأجانب. أما المعترضون على المبادرة، فيرون أنه ليس من شأنها سوى تعقيد نظام اجتماعي ناجح يستند توازنه على آليات دقيقة جدا، مشيرين إلى أن التأمينات الاجتماعية الحالية تغطي باستهداف دقيق المخاطر مثل الحوادث، أو البطالة، أو العجز بدرجاته، بل حتى دفع تعويض لصاحب العمل المستقل (ليس لديه رب عمل) في حالة توقفه عن العمل لمدة يوم واحد نتيجة نزلة برد مثلا. ويضيف هؤلاء أنه ليس هناك من منطق لتغيير نظام يعمل، حسبما قال، كونراد جرابر، عضو الحزب الديمقراطي عن مقاطعة لوسيرن باسم اللجنة النيابية التي تناقش الموضوع. وأشار جرابر إلى أن المبادرة ستكلف الكثير جدا، لأن 2500 فرنك للشخص الواحد في الشهر من شأنه أن يولِّد تكاليف تزيد على 200 مليار فرنك (210 مليارات دولار)، منها 153 مليار فرنك (161 مليون دولار) أو ما يعادل ربع الناتج المحلي الإجمالي لسويسرا في عام 2012 ينبغي تمويلها من ضرائب إضافية. أما النائب بول ريخشتاينير (عن الحزب الاشتراكي/ سان جال)، فاعتبر أن هدف المبادرة نبيل وأنها جديرة بالثناء، لكنها تتضمن عيوبا كثيرة، فأولئك الذين لا يحتاجون، سيكون المبلغ مرتفعا للغاية بالنسبة لهم، أما الذين في حاجة، فسيكون المبلغ ضئيلا جدا لهم، إلا أنه مع ذلك ينبغي الاستمرار في مكافحة الفقر، ولكن باتباع سياسات إيجاد فرص عمل، وإقرار الأجور اللائقة للجميع دون تعريض دولة الرفاه للخطر. وللمبادرة مساوئ، مثلما يقول معارضوها، فهي تحمل في طياتها تأثيرات سلبية محتملة في الإنتاجية، حيث تقلِّص مِن همة الناس للبحث عن عمل، وتغير طبائع الناس بمرور السنين نتيجة لعدم تكون شخصياتهم من الخوض في غمار العمل، وتبدد قيم المجتمع. ويرد مؤيدو المبادرة أنه لا يوجد هناك خطر في أن تصبح سويسرا غير منتجة، فمعظم الناس يرغبون في تحقيق المزيد من المال، أو تحقيق دخل أكثر من 2500 فرنك في الشهر، على أقل تقدير، مشيرين إلى أن الجاذبية المالية للعمل المدفوع الأجر ستستمر، وأن الناس ما أن يغطوا حاجياتهم حتى تتولد لديهم حاجات أكبر، وهكذا سيذهب الناس إلى المزيد من النشاط والعمل. ويتساءل معارضو المبادرة، ماذا لو أنفق الناس الرواتب الإضافية الجديدة على أحذية الرياضة والمخدرات بدلا من الغذاء والتعليم؟ وماذا لو توجه الناس إلى إنفاق "الغنيمة" في البلدان الأجنبية حيث للفرنك قوة شرائية عالية، وبهذا لن يقدموا أي فائدة تذكر للاقتصاد السويسري. فيما يرى أصحاب المبادرة أن 70 مليار فرنك ستستمد من مدفوعات الدولة الاجتماعية التي تنفقها حاليا على العاطلين، والمعوقين، والمتقاعدين ممن لم يصلوا إلى الحد الأدنى للراتب التقاعدي، أما الـ 130 مليارا المتبقية فيمكن تغطيتها من الدخول الآتية من النشاطات المربحة، ومن خلال فرض ضرائب على التعاملات المالية كشراء وبيع الأسهم، أو على رأس المال، كما يمكن أيضا إعادة هيكلة نفقات الدولة. لكن مشكلة هذه الخطة الاقتصادية، كما هو الحال في عديد من القضايا الاقتصادية، تكمن في أنه لا توجد هناك سابقة تاريخية شبيهة لها بمثل هذا النطاق الواسع، وهذه المشكلة هي الأساس في تردد أغلب الاقتصاديين في دعمها. عموما، لا يتوقع أن يوافق السويسريون على هذا المنّ والسلوى بسبب توجه الحكومة إلى تقديم توصية برفض المبادرة، إذ في الأغلب يتبع السويسريون توصية حكومتهم في رفض أو قبول المبادرات الشعبية، فقد صوتوا في أواخر تسعينيات القرن الماضي لمصلحة زيادة أسعار البنزين، كما صوتوا في بداية الألفية الثالثة لمصلحة مبادرة بزيادة الضرائب المباشرة، وفي 18 أيار (مايو) 2014 صوتوا ضد مبادرة شعبية تدعو لوضع حد أدنى للأجور لأدنى مهنة بمقدار 4000 فرنك (4210 دولار) شهريا. وإزاء هذا الالتزام برأي الحكومة، طُرحت مبادرة شعبية أخرى تدعو إلى منع الحكومة من تقديم توصية للشعب في الموافقة على المبادرات أو رفضها، غير أن السويسريين رفضوا المبادرة بأغلبية كبيرة، مفضلين سماع رأي حكومتهم. ولكن على الرغم من كل هذه الثقة، إلا أن السويسريين لم يعطوا آذانا صاغية لتوسلات الحكومة بالموافقة على مبادرة شعبية تدعو لشراء طائرات مقاتلة من صنع شركة «ساب» السويدية بقيمة 3.2 مليار فرنك (3.4 مليار دولار)، حيث تم رفضها بأغلبية واضحة.