< صدرت الموازنة العامة للدولة، وكما هو متوقع تماماً، هناك عجز، المواطن لم يكن بحاجة إلى من يسترق له السمع ويدس في أذنه أخبارها؛ لأنه لم يعد غبياً وساذجاً تمرر عليه الإشاعات وتعبث به الشبهات، التي كانت تسمع من مصدرها وسائل مجهولة، تستغل ظروف الدولة وتشرع ببث هذه المخاوف، ونحن نعلم يقيناً سوء الطوية والنوازع العدوانية وراءها. أعلنت الموازنة العامة للدولة في وقت مأزوم، أجزاء من العالم العربي يصطخب بفعاليات الهدم والتدمير، والعالم برمته يمر بضائقة مالية ليس بسبب الانخفاض الحاد في أسعار النفط، بل بتدهور البنى الاقتصادية المتأثرة تباعاً بالنزاعات السياسية والحروب، انعكس ذلك بالضرورة على المملكة، المعتمدة بشكل أساس على صادرات النفط وأسعاره المتأرجحة، المتأثرة بشكل مباشر بما يحدث من صراعات وفوضى مدمرة. المواطن يعي جيداً مسؤوليته، ويدرك جيداً معنى التغييرات الطفيفة على أسعار الوقود والطاقة والماء، إلا أن هذا التغيير الطفيف سيمس المواطن ذا الدخل المحدود، القابع تحت سقف محدودية الراتب الذي مهما علا فإنه لا يعدو مصروفاً، تأكله محرقة متطلبات الحياة اليومية، ولكن برأيكم.. هل باليد حيلة؟ كنا قبل أيام نتحدث عن (برنامج التحول الوطني التنموي 2020) الذي تبناه ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في مكاشفة مفتوحة حضرها رجال الأعمال والإعلام، كتبنا كلاماً كثيراً قبل أن تتضح معالم هذا المشروع، لم نسأل عما سيستبطنه من حلول جذرية للبطالة ومعدلات الفقر الآخذة في التزايد في ظل ارتفاع أسعار السلع، وأزمة السكن التي لا تزال ماكثة كفكرة تبناها وزير الإسكان، والتردي في البنية التحتية في كثير من المرافق الآخذة في الضمور أمام الانفجار السكاني في السعودية كالصحة، والتعليم، والإعلام، وافتقار مشاريعنا إلى خطط إستراتيجية تستوعب كل المتغيرات، إذ إن موازناتنا السنوية الضخمة تصرف بناء على الحاجات الضرورية وقت الأزمات، وفي سنوات الرخاء تبذل الأموال إلى ما هو أبعد من الحاجة. إن دولتنا كريمة على الوطن والمواطن، إلا أننا لم نعثر بعد على سر بعض التردي والأزمات مع كل الموازنات الضخمة، فمن تزايد البطالة، إلى أزمة السكن، مروراً بغرق المدن جراء السيول، إلى الحرائق في المدارس والمستشفيات، ناهيك عن الأخطاء الطبية القاتلة التي يذهب ضحيتها أبرياء جاؤوا للتشافي وخرجوا منها إلى القبور. برنامج التحول الوطني التنموي تضمن ما كنا نطمح إلى تحقيقه، متبنياً رؤية افتراضية، تبدأ من تقليص الاعتماد على النفط مصدراً أساساً في بناء موازنة الدولة السنوية، من خلال العديد من الخطط، من أهمها: دعم القطاع الخاص لمشاريع الدولة من خلال المشاركة، وتحميل الوزراء مسؤولية كاملة عن مشاريعهم المشمولة بالخطط المرسومة، وعلى ضوئها سيحاسب الوزراء على التقصير، كما نوه المشروع عن مسؤوليته تجاه الحد من الفساد المالي والإداري. هذه الطموحات الكبيرة التي تناولها المشروع، إضافة إلى تفصيلات أخرى تُعنى بالمواطن ذكراً كان أم أنثى هي حلم طالما داعب المواطن، وكنتُ -كغيري- أتمنى لو اشتمل المشروع على إضافات أخرى مهمة؛ من أجل مصلحة المواطن، بأن يضاف إلى القطاع الخاص المدعوم بقوة إلى أن يصبح شريكاً للقطاع العام، وأن يحمل مسؤولية أخرى تجاه الوطن والمواطن، كأن تفرض عليه ضرائب على نسبة المبيعات، إضافة إلى التعرفة الجمركية التي تؤخذ منه ولا تساوي خُمس ما يربحه من جيوب المستهلكين، فلا يقتصر رفع الضرائب على استيراد السجائر ومواد التبغ، مع تحديد نسبة الأرباح من السلع، بناء على أسعار البضائع الحقيقية لا المزورة، فقد رأينا ماذا فعل وزير التجارة مع الموردين برقابته الصارمة، لتتحول بقدرة قادر أسعار بعض البضائع ولاسيما الطبية إلى أقل من نصف سعرها السابق، بمعنى أن بعض التجار كانوا يدلِّسون على الناس ويتلاعبون بالأسعار، فما ضيرهم أن يدفعوا ضريبة لن تخسرهم إلا ما كانوا يقتطعونه من لقمة عيش المستهلك الغلبان، ونحن نعلم جيداً أن هذا المحتكر الكبير لن يقبل بالشراكة مع قطاعات الدولة ما لم يكن المستفيد الأكبر منها إلا بسن قوانين صارمة تجاهه، مع رقابة صارمة على تنفيذها. شيء آخر، وأنا متأكد تماماً وكأني أرى ذلك رأي العين من عوائده الضخمة على موازنة الدولة السنوية، وهو فرض ضريبة محدد على العمالة الأجنبية، فمتى علمنا وفق آخر إحصاءات لحوالات العمالة الأجنبية في السعودية التي تجاوزت 400 بليون ريال سنوياً المكشوفة ومنها وغير المكشوفة التي تتم بطرق غير شرعية من خلال عمليات التستر، ففيما لو ضبطت هذه العملية وأخذت الضريبة من كل العاملين، سواءً أكانوا أفراداً أم شركاتٍ بطريقة النسبة والتناسب فسوف تضيف لموازنة الدولة مدخولاً كبيراً، يقيها مغبة تقلبات أسعار النفط، وهذا حق مشروع للدولة مثلها مثل أي دولة أخرى، فلماذا نتساهل في هذا الأمر. ثمة أمر آخر مهم جداً، وهو للأسف ما يعاني منه صغار التجار -ذكراً كان أم أنثى- ممن لا يجدون ما يعينهم على استئجار محل يمارسون فيه نشاطهم، فيلجأون إلى الأرصفة وجوانب الطرقات، وهو ما يعرضهم لملاحقات مراقبي البلدية، فلو تم الاتجاه إلى إعادة الأسواق الشعبية بطريق مستحدثة، وسمحت لكل من لديه منتج أو حرفة باقتطاع حيز له داخله، بهذا سيجد المواطن مصدر دخل يسد حاجته، كما سيوفر واجهة سياحية مفقودة لمدننا التي أكلتها الحداثة أكثر مما ينبغي، ولكن ذلك في إطار التوجه المتضمن في برنامج التحول الوطني، والمتمثل في دعم المشاريع الصغيرة، مع الوعود المرادفة له القاضية بإزالة المعوقات الإجرائية والإدارية والمالية، وهو ما سيتيح حرية أكثر لصغار التجار، وقد تسهم المجالس البلدية بما أوتيت من صلاحيات من إنجاح هذه المشاريع من خلال تذليل كل الصعوبات، وإيجاد نماذج ميسرة لكل راغب في العمل، مع مساعدته على الحصول على القروض الميسرة له. سينجح مشروح التحول الوطني بآلية وأدوات تنفيذ صارمة وحازمة لا تسمح بالتهرب أو المماطلة، ولعل من أهم هذه الأدوات: إعادة النظر في أنظمة كثيرة تعد من أهم معوقات العمل التجاري الحر، أربع سنوات كفيلة بإثبات صدقيتنا وجدارتنا بالتغيير إلى ما هو أفضل. * كاتب وروائي سعودي. almoziani@