قرأتُ أخيرًا مقالةً للباحث الأردني المعروف إبراهيم غرايبة عن التجربة الأردنية في إدارة الشأن الديني. وهو يذكر أنّ الدولة الأردنية تنفق كل عامٍ ما يُناهز المليار دولار على المعْنيين بالشأن الديني في الأوقاف والإفتاء والجامعات والمعاهد الإسلامية والجهات الدعوية والخيرية. لكنّ الجهود الكبرى المادية والسياسية ما أفلحت في النهوض بالمؤسسات، ولا حمت الدين من التطرف، بل إنها ربما أثرت تأثيراتٍ معكوسة أحيانًا. لقد كان غرايبة قاسيًا في الحكم على أعمال المؤسسة الدينية الأردنية وتأثيراتها. لكنّ الموضوع شديد الأهمية، وينبغي أن يخرج إلى النقاش العلني، وأن يجري التداولُ فيه على أوسع نطاق، لأنه لا شيء يفوقُهُ في الاعتبار الآن. فهناك الكثير جدًا من العنف الذي يُمارَسُ باسم الدين بحيث جرؤْتُ على القول إنه حدثت انشقاقات في ديننا، وهذه الانشقاقات تحاول تفجير مفهوم الدين. وبذلك فإنّ التجربة السابقة في النصف الثاني من القرن العشرين في إدارة الشأن الديني ينبغي نقدها ومراجعتُها فيما بين الدولة والمؤسَّسات الدينية والمثقفين وواضعي الاستراتيجيات. وقد اقترحتُ في محاضرةٍ بمركز الملك فيصل بالرياض في مطلع العام 2014 أن تقوم الجهات الأربع الرئيسيةُ السالفةُ الذكر بالتشاور والتداول والتخطيط للقيام بثلاثة أُمورٍ لإصلاح إدارة أو تدبير الشأن الديني، وهي: أولاً، إطلاق عمليات مراجعةٍ ونقدٍ لتحويلات المفاهيم الدينية التي تمكّن الحزبيون والمتطرفون في العقود السبعة أو الثمانية الأخيرة من «إنجازها» لجهات التأويل والتحويل وتغيير الاتجاه والزيادة والنقصان في ثوابت ومسائل حساسة مثل الإيمان والجهاد والخلافة والعلائق العدوانية أو الانفكاكية بالدولة وبالمؤسسات الدينية وبعالم العصر وعصر العالم. والمهمة الثانية: تقوية المؤسسات الدينية بحيث تجدِّدُ كفاءتَها وفعاليتها وتتمكن من القيام بمهامها الأربع الأساسية، وهي: رعاية وحدة العبادات ليظلَّ المسلمون يصلّون معًا ويتشاركون ثوابتَ الدين وأصولهُ وأركانه، والتعليم الديني لتربية الأجيال صغارًا وفتيانًا وكبارًا متخصصين على علاقاتٍ سويةٍ بين الفئات الاجتماعية، ومع الدولة وإدارة الشأن العام. ومع الآخر المختلف بالداخل وفي العالم. والمهمة الثالثة: الفتوى المستنيرة التي تدفع المتدينين باتجاه الفهم والتلاؤم والنظر إلى المشكلات كبيرها وصغيرها بعيون الإقدار والتمكن والأفق المفتوح. والمهمة الرابعة: الإرشاد العام؛ إذ لم تعد جهات وتيارات التأثير على المجتمعات مقتصرةً على الدول، بل التأثير الأكبر للجهات التي تمتلك الإعلام ووسائل الاتصال. ومن حقّ الجهات الدينية المشاركة والتنافس إذا صحَّ التعبير بحكم وظيفتها التقليدية لهذا الجانب، وبحكم الطوارئ في العلاقة بين الدين والمجتمعات، وبين الأصوليات والعصر. أما الأمر الثالث الذي ينبغي إعادة التفكير فيه والتدبير بشأنه، فهو العلاقة بين الدين والدولة، أو بالأحرى بين الدولة والمؤسسة الدينية. فقد كانت العلاقةُ تعاونيةً وللدولة اليد العليا فيها باعتبار أنها هي التي تنفق على الشأن الديني من خلال تلك المؤسسات. وقد اعتقد المثقفون العرب، وبخاصة اليساريون والعلمانيون، أنّ هنا مشكلتين؛ مشكلة التقليد الديني الذي يتبادل الحماية مع الدولة التي تشجع الاتجاهات «الرجعية»! والمشكلة الأخرى عمل أرباب الشأن الديني في الدفاع عن الأنظمة القائمة أيًّا كان شكلها، وأيًّا كانت شرعيتها. وما كان هؤلاء مع استقلال الشأن الديني والمؤسسة عن الأنظمة، بل كانوا مع إزالتها أو عزلها للقضاء على الموروث الرجعي، وفصل الدين عن الدولة! وقد تبين أنّ هذا الفهم الذي كُتبت فيه نظرياتٌ هائلة تتخلله أخطاء الفهم والاستنتاج من عدة نواح. فالدول «التقدمية» ما كانت تحمي التقليد الديني، بل كانت تريد إضعاف المؤسسة أو إدخالها في عمليات «التحديث». ثم إنّ الأصوليات الانشقاقية خرجت أول ما خرجت على تقاليد فقه الدين وفقه العيش لدى المؤسسات الدينية. وتجاهلت كل موروث التجربة التاريخية الإسلامية، باتجاه التأصيل القاطع في الكتاب والسنة وتجربة الراشدين، التي تفهمها وتفسّرها بحسب هواها ومطامحها أو مطامعها. بيد أن هذا وذاك لا يمنع من القول إن تجربة العلاقة في العقود الماضية لم تكن ناجحةً بدليل انفجار الدين بأيدي الدول والمجتمعات والمؤسسات الدينية. فلا بد من التفكير «من خارج الصحن» كما يقال، لإعادة الانسجام بين الدين والدولة في العالمين العربي والإسلامي. إنّ القياس على التجربة الغربية واقتراح حلول بالمنطق نفسه، قد يكون مفيدًا من حيث الكشف عن تعددية الخيارات. أما الواقع فهو أنّ التجارب التاريخية والحاضرة مختلفةٌ تمامًا. فالدين ورجالاته ما حاولوا الحلول محلَّ رجالات الدولة، ولا الاستيلاء على الشأن السياسي. بل إنّ الإمامة (= السلطة) بحسب الماوردي كانت لها مهمتان: حراسة الدين (= حفظه على أصوله المستقرة)، وسياسة الدنيا. وبذلك فهي لا تتدخل في عقائده وعباداته ومعاملاته، لكنها تصون الثوابت والإجماعات، وبلغة العصر: الحريات، حرية العقيدة، وحرية العبادة، وحرية التعليم. وبالطبع، ليس من مصلحة الإدارة السياسية أن يتدخل العلماء في الشأن السياسي بما يتجاوز النصيحة. بيد أن متغيرات الحداثة والعصر أحدثت اختلالاتٍ هائلةً في سائر الجوانب: فالسلطات أرادت المضي في ضبط الشأن الديني، والمثقفون العرب والمسلمون أرادوا إخراج الشأن الديني من المجال العام، والشبان تمردوا على الجهات الدينية والسياسية، وأرادوا استعادة الشرعية الدينية للمجتمع والدولة من خلال الاستيلاء على إدارة الشأن العام وتطبيق الشريعة! ما كانت تجربة المؤسسات الدينية في العقود الخمسة الأخيرة رائعةً أو واعدة. ولا يرجع ذلك إلى التبعية للسلطات وحسْب، ولا إلى مجاملة الأصوليات في مسألة الدين والدولة وحسْب؛ بل وإلى أنها ما كانت ناهضةً وقويةً بحيث تصبح مهيبة الجانب، وموضع ثقة، وموضوع نظر من المجتمعات والعالم. إنما ولكي نقدر مدى أهمية تلك المؤسسات، لنَرَ كيف تنافست الأنظمة والأصوليات في دول الاضطراب على تخريبها وقتل شيوخها. كل العرب، بل كل المسلمين، بل كل البشر، مشغولون اليوم بمواجهة العنف باسم الدين تحت اسم الإرهاب. وبالطبع، لا مجال للتردد في ذلك. لكن مجتمعات المسلمين مجتمعات ضخمةُ، وثلث المسلمين بعد هذا يعيشون في مجتمعاتٍ أكثرياتها غير مسلمة. فلا بد من التفكير منا جميعًا بمراجعة تجارب الماضي القريب للعيش فيما بيننا ومع العالم. ولا بد من التفكير بطرائق تسكين الدين أو القلق الديني. وكما لم نستفد من سيطرة الدول على الشأن الديني، فكذلك لم نستفد من ضعف المؤسسات الدينية واستتباعها واختراقها من جهةٍ أخرى من جانب المتشددين: فهل يمكن استعادة الانسجام بين الدين والدولة في مجالنا الاستراتيجي من طريق تعاون السلطات والجهات الدينية والمثقفين في «حفظ الدين على أصوله المستقرة، وأعرافه الجامعة»؟!