ليس هناك جذر أو ظرف واحد يمكن الإحالة عليه حصرياً في تفسير وتفاقم ظاهرة التطرف. فالتطرف تفاقم كسيرورة تخلقت في رحم جذور وظروف عميقة ومركبة ما كان لها أن تنتج غير التطرف، ولو أنتجت غيره لكان ذلك هو الغريب حقاً. في موازنة ما بين الخارجي والداخلي من العوامل والظروف، ليس ثمة بريء، فالكل ساهم في إنتاج هذا الوحش البشع: التدخلات الخارجية العسكرية وغير العسكرية، الحكومات الفاشلة، السياسات القمعية وغياب الحريات، الاقتصادات المهترئة، الإحساس العميق بالإذلال والهزيمة واللامعنى، الفكر الخلاصي القائم على مانوية الأسود والأبيض، تسيد التفسيرات الدينية الأكثر تشدداً وتعصباً.. والتعليم الديني! ولهذا الأخير نصيب مُعتبر في إيجاد المناخات القابلة والمولدة للتطرف. لكن من المهم موضعة النقاش هنا حول دور ونصيب التعليم المُعتمد في معظم مناهج التدريس العربية الحكومية، ضمن سياق مجموعة عوامل أعم وأكثر تعقيداً. وهذا يُقصد منه رفض حصر المسألة كلها بالتعليم، رغم أهميته الكبيرة. تجادل هذه السطور بأن جزءاً ليس باليسير من ثقافة التعصب والتطرف التي تتبناها منظمات التطرف وعلى قمتها «داعش»، هو مُدرس نظرياً لطلابنا بشكل أو بآخر. قد يتم ذلك بشكل أقل خشونة، لكنها تؤسس لطيف واسع من الممارسات المختلفة ضد الآخر، تبدأ بالتعالي الشعوري عليه واحتقاره، وتصل إلى ممارسة العنف ضده. أي ثقافة تقوم على إعلاء الذات فوق الآخرين عوض إرساء قواعد مساواة تامة معهم، على أساس المواطنة المشتركة، وفي إطار التنوع الذي يحترم الاختلاف ولا يرى سوى التعايش إطاراً للحياة البشرية، هي ثقافة متطرفة وإقصائية ومآلاتها داعشية. تتأسس معظم المساقات الدينية التي تُدرس للتلاميذ في معظم الدول العربية، على منهج التلقين والتلقي واستدعاء الآراء الدينية التي كانت سائدة في قرون ماضية، ويتم اعتماد التفسيرات التي أنتجت في تلك القرون. ومع أنه ليس من الإبداع ولا اجتراح المُعجز القول إن ما ناسب زماناً ومكاناً ما لا يناسب بالضرورة كل زمان ومكان، فإننا لا نجد هذه البدهية مُطبقة في جوهر التعليم الديني. لذلك نرى ونسمع تطبيقات لفتاوى الرق والرقيق مثلًا في أيامنا هذه، وهي مُستلة من التاريخ السحيق! ونرى ونسمع من يبرر أو «يتفهم» ممارسات «داعش» في بيع النساء والأطفال كسبايا! كما نقرأ ونسمع لمفتٍ يتحدث عن ضرورة غزو المسلمين لأراضي غيرهم، لأن الغنائم هي الحل لفقر المسلمين. كيف لا وهذه المسائل و«أحكامها» تدرس كجزء من المنهج الديني؟! عندما يسيطر التخلف الفكري والتطرف على مجموعات فإن التطبيق الطبيعي لما تتم دراسته نظرياً يكون هو في النهاية ما نشهده جميعاً ويصدم وعينا الجمعي. لقد أصبح إصلاح التعليم مشروعاً ملحاً يحتاجه العالم العربي، اليوم قبل الغد، وقد تأخرنا فيه كثيراً إلى أن أنتج ما أنتج. وإصلاح التعليم الديني المطلوب ليس مجرد إضفاء رتوش تجميلية هنا وهناك، بل يجب أن يكون ثورة حقيقية تقوم على نفض النظام التعليمي كله وإعادة تأسيسه على قاعدة المواطنة والمساواة والدولة المدنية، بعيداً عن الشرعيات الدينية التي تستخدمها المنظمات المتطرفة المعارضة لها. وعندما يتم إعلاء قيم المواطنة والمساواة المدنية على حساب كل القيم المفرقة الأخرى، سوف تنتج أجيال لا ترى في أفراد الوطن سوى مواطنين كاملي الأهلية يتنافسون بحسب الكفاءة والقدرة، وفي ميدان الحقوق والواجبات التي يكفلها وينظمها الدستور. من دون أن يتحقق ذلك فإن ميدان التفسير الديني يظل مفتوحاً لكل من هب ودب كي يضع معايير الولاء والانتماء، فيدخل هذا ويخرج ذاك من دوائر الولاء التي يرسمها. فالمناهج العقيمة والجامدة التي تنطوي على ثقافة إقصائية كامنة تعمل على تجهيز الأفراد وتحضيرهم لأية مشروعات تطرف مستقبلية. تحتاج مناهج التعليم العربية إلى ثورة حقيقية تقيم الاعتبار للعقل ولدراسات النقد والفلسفة وعلوم الاجتماع والأنسنة وعلم النفس والفنون، إضافة إلى العلوم التطبيقية والتقنية، ومنطلقة نحو المستقبل. وهذا يجب أن يكون على حساب مناهج التلقين والتحفيظ والإيغال في الماضي والتراث وحبس عقول التلاميذ والأجيال الشابة في معلقات التغني بأمجاد الماضي. من دون أن يكون هناك مسار عريض منشغل بتطوير التعليم وتحريره من السيطرة الدينية الجامدة والمغلقة، فإن كل جهود مكافحة التطرف وصده في المنطقة العربية لن تحقق أي نجاح طويل المدى. *د. خالد الحروب* *كاتب وأكاديمي عربي