إن الشواهد في عالمنا المعاصر تشير إلى أن العقل البشري يستجيب ويتجاوب في كثير من الأحيان بشكل أفضل مع الأسئلة المطروحة بطرق المناقشة والحوار والنقد البناء التي تعصف وتقدح بالذهن فتولد التحدي الذي يدفعنا إلى التعلم والبحث المعرفي، وأسلوب المناقشة والحوار والنقد البناء يعتمد على تحليل وتفنيد الأفكار الخاطئة بالحجج القوية والبراهين الدامغة، وتجنب ارتكاب الأخطاء المرتبطة بصفات الهوية الشخصية مثل: هوى النفس وخداع الذات والأنانية، والمحاباة والانحياز والتعصب والتشويه والتجريح، وتحريف المعنى أو تأويله، ونشر الإشاعات والمعلومات المضللة.. إلى آخره. والإجابات على أسئلة المناقشة والحوار والنقد البناء يجب أن تحمل المعارف والتوضيحات والمزايا التالية: أولاً: التفقه في الدين والاستفتاء الشرعي، كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من يرد الله به خيراً يفقه في الدين أخرجه البخاري ومسلم. ثانياً: معرفة الثوابت الوطنية والأنظمة المدنية والتعليمات الأمنية لعدم الإخلال بها. ثالثاً: إشباع نهم البحث العلمي والشغف المعرفي واستكشاف المجهول. رابعاً: تنمية القدرة على سياق المواقف الشخصية والأحداث الاجتماعية والقصص الهادفة والظروف المختلفة بأساليب متنوعة وخيارات متعددة لعرض المواضيع والقضايا المعقدة بأسلوب بسيط. خامساً: تعزيز القدرة على فهم العالم المحيط بنا ونعيش فيه بمجموعة واسعة من طرق الاستدلال الفكري. وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من الناس تؤمن بأن أسئلة المناقشة والحوار والنقد البناء يجب أن تكون جيدة وإيجابية وخلاقة ومثمرة إلا أنهم مع ذلك لا يطرحون الأسئلة المثيرة التي تدفع إلى البحث والتفكير، لأن أحد الأسباب التي تمنعهم من السؤال بشكل أفضل هو أن التساؤل الفعال يتطلب الإنصات الفعال، والتساؤل الفعال هو طرح الأسئلة القوية المثيرة للتفكير مثل الأسئلة المفتوحة (ماذا) و(كيف) التي تعطي للمسؤول حرية الرأي والتعبير، مع تجنب الأسئلة الإيحائية التي تستهدف الوصول إلى إجابات محددة يرمي إليها السائل، والتساؤل الفعال يجب أن يتجنب أسئلة (لماذا)، لأن (لماذا) من الأسئلة التي توحي غالباً باتهام الناس بالتقصير والإدانة من قبل السائل وتضعهم في وضع دفاعي، كما أن الإجابات على أسئلة (لماذا) تتطلب سوق المبررات والدفاع عن النفس، لذا يجب أن يكون السائل حذراً ورصيناً عند استخدام (لماذا) ويسأل أسئلة محسوبة ومدروسة. والعلاقة وثيقة وقوية بين أسئلة النقاش والحوار والتفكير النقدي البناء التي تمدنا وتزودنا بالمهارات اللازمة لفهم الأحداث وتحليل القضايا وتقييم المعلومات، وبهذه المهارات نصبح قادرين على كسب أكبر قدرٍ من المعرفة حتى ولو كانت المعطيات والبيانات المتاحة بين أيدينا قليلة، وبالتالي تتاح لنا فرص أفضل لصناعة القرارات المناسبة، ويتقلص حجم الضرر إذا حدث خطأ خلال تنفيذ القرارات، لأن الإجابات على الأسئلة الفعالة تحقق الفوائد التالية: (1) تُنمي التفكير الهادف والنقد البناء ليكون أكثر انضباطية وموضوعية. (2) تنمي الحيادية وتقلل درجات الانحيازية. (3) تنمي مهارات التحديد والتمييز والتقييم بين المعلومات والمواضيع المترابطة والمختلفة عن بعضها البعض، وبالتالي فإن الإجابات على الأسئلة الفعالة تحقق لنا مزيداً من الفهم للمحيط والبيئة التي نعيش فيها، فتوفر دفعة قوية لتحسين الأداء عن طريق النقد البناء. والتفكير السلبي عكس التفكير النقدي البناء، والدليل على ذلك عندما نتأمل سلوكيات الشباب الذين وقعوا في براثن الفكر المتطرف نجد أن هذه السلوكيات نتيجة افتقادهم التفكير السليم وملكة النقد البناء الذي يشكل القاسم المشترك بين هؤلاء الشباب. ومن صفات هؤلاء الشباب الذين يفتقدون ملكة التفكير النقدي البناء سرعة الطاعة وسهولة الانقياد لأصحاب الفكر المتطرف الذين فرضوا عليهم آراءهم وتصوراتهم المتطرفة. وأصحاب الفكر المتطرف سلوكهم السلبي غير فعال، لأن درجات التضحية التي يمكن أن يقدموها للآخرين مهما بلغت تظل محدودة، وتكرار الانتكاس من صفات الشباب الذين اعتنقوا الفكر المنحرف والسلوك المتطرف، لأنهم انتكسوا ابتداءً على والديهم وأسرهم والمجتمع الذي يعيشون فيه وكانوا في يوم من الأيام يضحون من أجلهم، لذلك غُرر بهم فوقعوا فريسة للإرهاب، والبعض الآخر تكرر منهم الانتكاس للمرة الثانية بعد توبتهم ودخولهم برنامج المناصحة المتخصص في تصحيح الفكر المتطرف. وسهولة الانقياد والانتكاس انتهى بهؤلاء الشباب إلى تقديم حاجات وأولويات كبرائهم من أصحاب الفكر المتطرف على حاجات وأولويات أنفسهم والتضحية من أجلهم، فنفذوا تعليماتهم الإرهابية وارتكبوا التفجيرات الانتحارية. لذلك فإن رعاية ملكة التفكير النقدي عند الشباب وتربيتهم على النقد البناء الهادف خط دفاع قوي لحماية الشباب من الوقوع في براثن الفكر المتطرف. وأهمية التفكير النقدي البناء يمكن إجمالها في النقاط الست التالية: أولاً: يُمكِّن من التفسير والتحليل والتقييم وإعادة هيكلة التفكير. ثانياً: ينمي الحلم والتسامح ورحابة الصدر، ويقضي على الخوف من الآخرين واستبعادهم ونبذهم. ثالثاً: يمكن استخدامه للتحقق من صحة الدعوة جزئياً أو كلياً أو كذبها وزيفها، فالتفكير النقدي أداة فعالة بواسطتها يمكن الوصول إلى استنتاجات منطقية استناداً إلى اجتهادات ومنهجيات منطقية. رابعاً: يمكن أن يكون مصدر عون لجيل الشباب لتطوير قدراتهم في التفكير الخلاق والحكم المستقل. خامساً: يقلل من مخاطر تبني الفكر المنحرف والاعتقاد الخاطئ أو السلوك المتطرف. سادساً: تبرز أهمية التفكير النقدي لإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل المختلفة من قبل الفريق الواحد، لأن العلم بوجود المشاكل بين أيدينا فحسب لا يكفي لإيجاد الحلول لها، وإنما يتطلب فهم المشاكل من قبل أعضاء الفريق ومعرفتها حق المعرفة من خلال طرح الأسئلة الفعالة المثيرة للتفكير. والخلاصة إن كثرة الأسئلة التي نعرف إجاباتها سلفاً مؤشرٌ على غياب البحث والتحري واستكشاف المجهول، ودليل على افتقاد ملكة التفكير النقدي البناء الذي يدفع إلى التعلم والابتكار لإيجاد الحلول الناجحة لمشاكلنا المختلفة.