آخر ما تفتقت عنه عبقرية السلطات التركية في تبرير سعيها الجديد لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، هو أن هذا التطبيع يخدم المنطقة بكاملها، وكأن المنطقة أبرمت معها عقد اتفاق للتحدث باسمها، أو أوكلت إليها التحرك للدفاع عن مصالحها من دون أن تدرك أنقرة أنها باتت تغرد خارج السرب، وأنها تنطلق من حسابات خاطئة، لن تقودها إلا إلى خسارة المزيد من مكانتها الإقليمية ودورها في المنطقة. ولكن لماذا اختارت أنقرة هذا التوقيت بالذات للحديث عن إعادة العلاقات مع الكيان، وهي التي كانت تضع الشروط تلو الشروط وفي مقدمتها رفع الحصار عن قطاع غزة، ومحاسبة المسؤولين عن مجزرة مرمرة وتعويض ضحاياها، فهل استجاب الكيان لشروطها، أم أن هذا التحول يأتي في لحظة تراجع إقليمي وانعزال دولي، ترافقت مع سياسات عشوائية، تسببت في خسارتها لمعظم تحالفاتها وقواعد ارتكازها في المنطقة، وهي التي كانت، قبل سنوات قليلة، تحاول الظهور بمظهر زعيمة العالم الإسلامي قبل أن تفقد هذه الزعامة مع سقوط حكم الإخوان في مصر وانهيار الجماعة في المنطقة. المتتبع للعلاقة بين تركيا والكيان الصهيوني، سرعان ما يكتشف أن هذه العلاقة لم تتوقف أصلاً على كل المستويات، السياسية والاقتصادية والأمنية، منذ ارتكاب الكيان لتلك المجزرة، وباستثناء سحب السفير التركي من تل أبيب كانت العلاقات الاقتصادية مثلاً تسير في منحى تصاعدي حيث تضاعف حجم التبادل التجاري، وبقيت موانئ الكيان محطات للسفن التركية الحاملة للنفط المهرب من مناطق سيطرة تنظيم داعش ومن إقليم كردستان العراق، فيما تواصلت العلاقات السياسية والدبلوماسية على مستوى كبار المسؤولين، بينما استمرت منظومة العلاقات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية، باستثناء المناورات المشتركة، في إطار المرجعية الغربية والأطلسية وعضوية تركيا في حلف الناتو. لكن يبدو أن الاقتحام العسكري الروسي للمنطقة، وضع أنقرة في موضع لا تحسد عليه، ودفعها إلى المزيد من التخبط والسياسات العشوائية، خصوصاً بعد إسقاطها للطائرة الروسية، وما أعقبه ذلك من تداعيات أسفرت عن حالة عدائية مع موسكو، وأدت إلى القضاء على كل طموحاتها في لعب دور أساسي في المنطقة عبر البوابة السورية، وربما ولد لديها شعوراً بالانكفاء دفعها إلى فتح حرب جديدة مع الأكراد في الداخل، وإمعاناً في عدوانيتها، وسعيها للهروب إلى الأمام، أملاً في التعويض، اندفعت إلى انتهاك سيادة العراق وإرسال قواتها بطريقة استفزازية ولامشروعة إلى منطقة بعشيقة قرب الموصل، ثم إلى الحديث عن إعادة العلاقات مع الكيان. وكما في كل مرة، تواصل أنقرة سياسة المخاتلة والخداع والتضليل، على طريقة تعاملها مع داعش عبر الانتقال من أكبر داعميه إلى التظاهر بمحاربته، ومن الوقوف في وجه الكيان الصهيوني إلى التظاهر بمظهر المدافع عن مصالح العرب والمسلمين، ومن دون أن يرف لها جفن، تجاهر بأن التطبيع مع الكيان يخدم المنطقة. لكنها في الواقع، لن تكون سوى الخاسر الأكبر، جراء هذه السياسة الانفعالية وغير المحسوبة، انطلاقاً من المأزق الذي تعيشه وهي تواجه انهيار دورها ومشروعها في المنطقة، وبالتالي لم يعد أمامها سوى العودة إلى أحضان الحليف الدائم.. الكيان الصهيوني. younis898@yahoo.com