لعقود قليلة خلت كان الاحتفال بعيد الميلاد وبرأس السنة الميلادية يشع على جميع العباد ويثير البهجة في النفوس، ويشكل مناسبة لتكريس التآخي الديني والوطني هنا وهناك في ديار المشرق العربي. لقد تغيرت الصورة الآن وحل محلها قدر كبير من القتام. وقد بدأ التغير مع سقوط بيت المقدس في أيدي القوات الصهيونية عام 1967 حيث سيطر المحتلون على كنيسة القيامة في القدس، وعلى كنيسة المهد في بيت لحم جنوبي القدس. وبات الاحتلال منذ ذلك العام يتحكم في الدخول إلى المدينتين، كما يتحكم في ممارسة المسيحيين لشعائرهم الدينية. وهكذا فإن تجدد هذه المناسبات الدينية بات يقترن بواقع الاحتلال الذي طال أمده الذي يستهدف الأرض بما عليها من أماكن مقدسة إسلامية ومسيحية. وواقع الحال أن الاحتلال بسلوكه العنصري وبسعيه المحموم للتهويد القسري قد أدى إلى استنزاف الوجود البشري المسيحي العربي من القدس وعموم الضفة الغربية المحتلة التي لم تعد تضم سوى نحو خمسين ألف مسيحي فلسطيني، علماً أنه حسب معدل التكاثر الطبيعي فإن العدد يُفترض ألا يقل عن المليون. وقد تمت السيطرة الصهيونية على جزء كبير من أملاكهم وأراضيهم، وشجعتهم بعض الكنائس الغربية على البقاء ، فيما شجعتهم كنائس أخرى على الهجرة مع تقديم ما يلزم من إغراءات. ولا يحظى الوجود الوطني المسيحي بدعم سياسي وإعلامي يذكر في الغرب، باستثناء الدعم المقتصر على الحق في أداء العبادات. وهو ما يطلق يد المحتلين في التنكيل بهؤلاء إلى جانب التنكيل بمختلف شرائح الشعب الرازح تحت الاحتلال. في أيامنا هذه يتعرض رجل دين ورهبان إلى مختلف أشكال الشتائم والإهانات من المستوطنين الذين ينتشرون كقاطعي طرق في شوارع القدس، وخاصة من فئة المستوطنين المسماة فتيان التلال. وقد جاءت بعدئذ الموجة الأصولية وما بثته من أفكار التعصب، لكي تزيد في معاناة المسيحيين والتضييق عليهم، ولكي تمثل دافعاً مستجداً للهجرة إلى أمريكا وكندا ، وحيث سبل الحياة متيسرة للمهاجرين ما أن يحلوا في مواضعهم الجديدة. وليس بعيداً عن فلسطين فإن عرباً مسيحيين يتعرضون لضغوط شديدة تدفعهم لمغادرة أوطانهم، وقد حدث ذلك على نطاق واسع في العراق وسوريا، والى جانب ذلك فإن معاني الإخاء التي تكرست في النفوس على مدى قرون وتوارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل، هذه المعاني أصابها اضطراب شديد، وحلت محلّها أولويات أخرى من قبيل السعي لضمان التآخي بين المسلمين أنفسهم!. وقد انتهت مشاريع فكرية وثقافية كانت تحمل عناوين الحوار الإسلامي - المسيحي، إلى ضرورة وأهمية الحوار بين أصحاب المذاهب الإسلامية!، وهو ما ينعكس بالسلب على المجتمع برمته بما في ذلك الأقليات العرقية والدينية. لقد صادف هذا العام التقاء مناسبتين هما ذكرى المولد النبوي الشريف وذكرى ميلاد السيد المسيح، خلال يومين متتاليين، غير أن هذا الالتقاء الجميل طغت عليه أصوات العنف الذي لا يتوقف في سوريا والعراق والذي ينتحل في أغلب الحالات ادعاءات دينية، بينما الدين براء من استباحة دماء الأبرياء. فيما يتاح لغير المسلمين ممارسة شعائرهم على أضيق نطاق ممكن، وفي إطار من السرية. هذه الأجواء العامة والتي تلقي بظلالها الثقيلة على الجميع ، أفقدت مناسبة وداع عام واستقبال عام جديد الكثير من البهجة، وتحولت المناسبة إلى مجرد فرصة للتسويق السياحي والتجاري وتنشيط حركة البيع والشراء ، وبدا العديد من مجتمعاتنا وكأنها قد هزمت من الداخل، وهرمت فيها المعاني الجميلة وذَوَت، وخسر النسيج الاجتماعي ما كان يتمتع به من ألق التنوع وانفتاح المكونات الاجتماعية على بعضها بعضاً. ورغم أن صور التآخي ومظاهره ما زالت سارية وحية كما هو عهدها منذ القدم في مجتمعات مثل لبنان والأردن ومصر، وهي دول أساسية في المشرق، إلا أن رياح السموم تعبر جميع الأجواء وخاصة مع سهولة التدفق عبر تقنيات الاتصال الحديثة، فضلاً عن مجاورة بؤر التوتر الاجتماعي والسياسي في دول أخرى، ولهذا تحل هذه المناسبات ويحل محلها الحنين إلى زمن جميل مضى كان فيه المساس ولو من بُعد بعقائد الآخرين يعتبر مثلبة ونقيصة يتفاداهما كل راشد عاقل، وكل صاحب ذوق سليم، ومن الجنسين بالطبع. بينما في زماننا هذا فقد أصبح التعرض لعقائد الشركاء في الوطن والإخوة في الإيمان، مدعاة للفخر السقيم والمباهاة العمياء.. فضلاً عن أتباع الديانات الأخرى. ويستذكر المرء هنا بإعجاب القانون الذي يجرّم الحض على الكراهية والتمييز، والذي صدر في دولة الإمارات العربية المتحدة، والذي يعتبر بادرة تشريعية مضيئة تقطع الطريق على دعاة الغلو والتعصب لأيّة ملّة انتموا، وتكرّس السلم الاجتماعي كقيمة عليا تستحق حمايتها على الدوام. ولا شك أن الدساتير وحتى القوانين العربية تحفل بالمواد التي تكرّس العدالة والمساواة بين الناس وتجرّم الافتئات والتمييز فيما بينهم، والعلّة هي في ضعف تفعيل تلك البنود، أو في التعامل معها بصورة انتقائية أو آنية، وتقديم ما يسمى عُرفاً في العديد من الحالات على ما هو قانوني أو إنساني. mdrimawi@yahoo.com