لا شك أن السياسة لا تعرف الثبات، ولا يمكن الإيمان ببقاء حال السياسية على وتيرة واحدة، مهما كانت درجة استقرار العلاقات بين الدول أو حتى بين المنظمات التي تجمع الدول. ولقد تلبّدت سماءُ الخليج ببعض السحب السوداء قبيل انعقاد قمة مجلس التعاون رقم (34) بدولة الكويت، ما حدا بالبعض المراهنة على سقوط مجلس التعاون واعتباره ورقة في التاريخ السياسي العربي. ولكن ولله الحمد نجح مجلس التعاون في أن يسمو فوق جراح المرحلة، وضمّد جراحهُ بصورة عاقلة، وواصل الطريق نحو مصلحة الشعوب التي آمنت بأن هذا المجلس هو مصيرها وقدرها، وأنه يُعتبر من النماذج التعاونية الفريدة في العالم العربي. ولأن سُنة الاختلاف في السياسة من الأمور المحمودة، حتى لا تكون المواقف نسخاً من بعضها، أو حتى لا يستأثر طرفٌ دون سائر الأطراف بالقرار السياسي، فإن قدر مجلس التعاون أن يواجه اختلافات وجهات النظر منذ بداية تأسيسه، وهي الاتفاقية الأمنية، التي احتاجت إلى 32 عاماً أو نحوه حتى يتم التوقيع عليها من جميع الدول الأعضاء، ذلك أن هذا الموضوع مرتبط بالسيادة وبالتشريعات المحلية في كل دولة. لا ثبات في السياسية، وهي متحولة ومتقلبة ولا تعرف (الأسود أو الأبيض)، وغالباً ما يلتقي أفرادها فوق المنطقة الرمادية حيث تتحول فيها المواقف، وتكون فرصة للتعرف على الآراء الأخرى. وإذا آمنا باختلاف المواقف وتحوّلها، بل وتغيّرها، حسب البوصلة السياسية ومصالح الدول، فإن مواقف الشعوب يجب أن تكون بمنأى عن «لعبة» السياسة، وأن تُبنى العلاقات بين الشعوب حسب عوامل التاريخ والجغرافيا والقيم والعائلة، ما يمكن أن يُشكل فسيفساء اجتماعية وطنية، قد لا تستطيع الحكومات فصلها أو تحييدها عن الاندماج أو التواصل. قد لا تصل إلى الشعوب بعض المواقف السياسية الخاصة بكل دولة، لأن اشتراطات الدبلوماسية في كثير من الأحيان تحتم أن تُدار الأمور بالكتمان، وهذا ما جعل العامل السياسي بعيداً عن اهتمام العموم، فظهر التركيز على المشاريع المشتركة التي تخص حياة المواطنين، وزاد الحديث عنها والاحتجاج على عدم تحقيقها. ولأن شعوب الخليج قد آمنت بقدرها الجميل في ظل مجلس التعاون مهما كانت العقبات أو الهنات أو حتى التراجعات فإنها أصبحت أكثر نضجاً وحساسية لتلمس المنجزات التي تتصل بحياة المواطنين وكذلك الإخفاقات. وبصراحة فإن هذا العموم قد لا يكترث للعلاقات السياسية والمساهمات والاحتضانات السياسية، قدر ما يهتم بما يتحقق على أرض الواقع من منجزات تسهل عليه حياته، وتؤمن له الطريق لترجمة شعوره بالانتماء لهذا المجلس، وأنه لم يكن في يوم من الأيام من فريق الحالمين، الذي لا يكسب كثيراً في الدوري. وما يحزّ في النفس ما جرى خلال أيام قمة التعاون بالكويت؛ ذلك أن التخريب أسهل جداً من البناء، ولا يجوز أن تتخرب علاقاتنا الأخوية والتاريخية والحضارية إثر موقف سياسي. ولا نعتقد أن خليجياً مخلصاً ومواطناً غيوراً يمكن أن يُسيء لشعب خليجي آخر أو حتى قادته. وإذا كنا «نعيب» على بعض وسائل الإعلام العربية «المتشنجة» التي تبث صوراً وكلمات تطال رموزنا السياسية وبلداننا، فكيف لنا أن نسمح بتمرير بعض هذه الصور أو الكلمات فيما بيننا. علينا التحلي بروح الصبر وعدم الغضب أو الاستنفار والتشنج من موقف سياسي، لأن المواقف السياسية تتبدل وتتطور، وتعود المياه إلى مجاريها بين الأشقاء، ولكن إن تم «تخريب» العلاقات المتميزة بين الشعوب فإن ذلك يُعد خروجاً على روح العائلة الخليجية الواحدة، وإخلالاً بالنظام القيمي الأخلاقي الذي حكم علاقات شعوب الخليج التلقائية والشفافة. هذه الشعوب التي عُرفت بالأخوة والتسامح والكرم والشهامة ونجدة الملهوف، وهي قيم لا تختلف في أي بلد من بلدان مجلس التعاون، وعليه فإن علينا سرعة ترميم ما طال علاقات الشعوب عبر أدوات التواصل الاجتماعي وأن نضع نصب أعيننا تلك القيم ولا نزج أنفسنا في معترك نكون الخاسرين الأوائل فيه.