يومان يفصلان عن الذكرى السنوية الثانية لجريمة اغتيالك في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2013. عامان كاملان كل شيء فيهما أقل. ذكاء الفكرة السياسية أقل. سرعة التقاط الجديد والمتغير أقل. حنكة تقديم وجهة النظر والدفاع عنها وتحصينها بمنظومة دفاعية متكاملة، أقل. طعم الحداثة في المشهد السياسي اللبناني أقل. والدفء والود والصداقة أقل. كل شيء في غيابك أقل، إلا بقعة الوجع، تكبر وتتوسع في عتمة القلب. كثيرون صدمهم أن تشملك لائحة القتل. لكن حساباتهم لم تتطابق مع حسابات «بنك الأهداف» المعد بحرفة عالية وحقد أعلى. حسبوا أن هدوءك وتهذيبك واعتدالك وانفتاحك حصن حصين. رُقية تحمي من عين القاتل. حتى في بلد تعمل مصانع القتل فيه بانتظام ومثابرة، منذ خريف عام 2004، بدت مصيبة اغتيالك للكثيرين فاقعة في عبثيتها وتطاولها، والظلم الواقع عليك أوضح من أن تخطئه عين. بين الاغتيالات جميعًا، يكاد يكون اغتيالك الوحيد غير المتوقع. حين سقط سمير قصير وجبران تويني وصولاً إلى اللواء وسام الحسن، شعرنا أن كلاً منهم يرتقي درجة في المهمة التي أوكلها إلى نفسه. إن «الشهادة» تتمة منطقية لفعل المواجهة الذي قرروه، في بلاد تكافئ النجاح بالقتل والموهبة بالسيارات المفخخة. على الأرض تساوى الأثر التعبوي لفعل وسام مع الأثر التعبوي لكلمات جبران وسمير، وبقيت أنت في فصيلة فريدة. لا أقول هذا الكلام تقليلاً من شجاعتك التي أعرفها عن قرب، أو انتقاصًا من راديكالية موقفك السياسي تجاه مشروع الهيمنة المذهبي الإيراني، وميليشيا حزب الله وأخواته من منظمات الإرهاب وعصابات الجريمة باسم الله. لكن شجاعتك وراديكاليتك الأكيدتين ظلتا باردتين وبلا عصب تعبوي. رهان قاطع على عقلنة السياسة في حقول العواطف الخصبة، وضعك في مرمى من يهابون العقلاء. لن أواسيك كثيرًا. يؤلمني يا صديقي، أنه في سنة غيابك الثانية سيتذكرك الناس ضحية عارية للعنف وثقافة الاغتيال، وينسى جلهم أهمية وعمق الرؤية السياسية التي حملت. فداحة الجريمة لم تبقِ على صدرك إلا وسام «الشهادة»، وهذا ظلم يضاف إلى ظلم. لذا اسمح لي أن أختصر نقاشات طويلة بما أراه يوجز مشروعك لإنقاذ لبنان. فأولاً، لا مناص من تحييد لبنان عن صراعات المنطقة، لا سيما في سوريا التي دخلها حزب الله بوهم حماية بشار الأسد وها هو كل يوم يشيع قتيلاً أو مجموعة قتلى من دون أي أفق جدي لتحقيق هدفه. وهو كما نحن يتابع كيف وضع مجلس الأمن الدولي للمرة الأولى منذ اندلاع الثورة السورية، عبر القرار 2254، خريطة طريق لخروج الأسد خلال ثمانية عشر شهرًا. والتحييد، كما كنت تقول، لا يعني فقط أن يعلن لبنان حياده، بل أن تلتزم الدول المعنية والفاعلة في لبنان حياده، وأن تقلع عن استخدام أرضه أو بعض أهله في مشاريعها، وأن يُعلن هذا الالتزام في مؤتمر دولي أو عبر اتفاق دولي إقليمي على غرار الاتفاق الذي منح لبنان عقد التحييد الممتد بين عامي 1959 و1969. ثانيًا، العودة إلى خريطة الطريق الدولية لأمن لبنان عبر تفعيل بنود القرار الدولي 1701، لا سيما ما يتصل منها بتأمين الحدود الشمالية والشرقية للبنان والتزام اتفاقية الهدنة مع إسرائيل على الحدود الجنوبية. ثالثًا، فتح ورشة حقيقية في الداخل اللبناني تعبر بنا من مرحلة الدستور الانتقالي التي افتتحها اتفاق الطائف، إلى دستور تام وناجز يرتكز إلى حجري أساس: أ - إنشاء مجلس للشيوخ ينتخب وفق القيد الطائفي يضمن تطمين الطوائف اللبنانية ويحرر في الوقت نفسه النظام السياسي والإدارة من عبء الارتهان لنظام المافيا المذهبية. ب - التوجه نحو تطبيق اللامركزية الإدارية بما يعيد المبادرة إلى المواطن الفرد والأولوية للكفاءة والابتكار، ويحرر المجتمع من نظام الزبائنية المرتبط بنظام المافيا المذهبية. كنت يا محمد من قلة رأت مرسى الأمان وناضلت بشجاعة للوصول إليه. وأنا لا أكتب اليوم إلا إنصافًا لك. للعقل الذي يتكلم كأنه الآن هنا، راهنًا طازجًا، وكأن الموت مجرد ذريعة نبرر بها غيابك عن لقاء أو نقاش. لم تخطئ الرهان حين قلت ذات مرة إن قتل أحد ما لا يقتل الفكرة التي يناضل من أجلها، وإن هذا الفارق الجوهري بيننا وبينهم. هم يستهدفون الشخص ونحن مصرون على هزيمة فكرتهم. لذلك سننتصر! لا أخفيك أنني أضعف أحيانًا، وأقول إن وجودك هنا أفضل من انتصار فكرتك، وإن حياتك أغلى من أي انتصار يكون ثمنه «استشهادك». فتلك الفجوة كبيرة يا محمد، والثقب الأسود يزداد عمقًا وعتمًا. لكن لا بأس من مجاراتك فيما ذهبت إليه. نعم، لم يقتلوا الفكرة التي كانت من سنتين ربما سببًا لاغتيالك، وباتت اليوم هي حلهم الوحيد بعد أن جربوا كل شيء وارتكبوا كل شيء وغامروا بكل شيء. لا يزال مشروعك الثلاثي الذي هندسته بعناية فائقة هو الحل الوحيد المتاح لمن يريدون حلولاً. في الختام، يحرقني الشوق إليك. عزائي أنك ستلتقي سمير حتمًا، وسيكون بينكما ما أطمئن به عليكما وأحسدكما عليه في آن.