كل مهنة لها مرجعية ولائحة تنظيمية، أي تكون إما نقابة أو جمعية أو شيخا (كشيخ التجار) مثلا أو صيغة تحتوي تنظيما داخليا ويمنح الممارسين توصيفا وظيفيا دقيقا في تراتبية من الخبرات والأولويات. التنظيم والإشراف والمتابعة يبعد عن هذه المهنة الأفاقين، والحواة الجوابين، وأصحاب الشهادات المزورة، والطارئين عديمي الخبرة، وأولئك غير القادرين على العمل لغياب اللياقة الجسدية أو الفكرية نتيجة لاعتلال نفسي. إذاً نصل إلى أن المرجعية المهنية شأن مهم يحمي أصحاب المهنة من المجتمع ويحمي المجتمع منهم، ودون التنظيم ندخل في حالة من الفوضى والتفلت.. التي تصل مشارف الخطر، تماما كتلك الحالة التي نراها في «مهنة الوعظ»! بعد أن تركت مشرعة للجميع، وكل من تسربل بمسوح التُقى بات باستطاعته أن ينثر آراءه العجيبة على المجتمع، دون أن تكون هناك جهة تنظم هذه الموضوع من ناحية، وتؤخذ على يد الطارئين والمتنفعين بالنجومية وتصفيق الغوغاء والعامة من جهة أخرى. يقول الشاعر الواعظ يحيى بن معاذ في القرن الثالث الهجري: مواعظ الواعظ لن تقبلا حتى يعيها قلبه أولا يا قوم! من أظلم من واعظ؟ خالف ما قد قاله في الملا أظهر بين الناس إحسانه وبارز الرحمن لما خلا المفارقة هنا أن الوعاظ باتوا لايخالفون الرحمن في الخلاء، بل على رؤوس الأشهاد، وبمسمع ومرأى من ملايين الجماهير، فمن واعظ يمازح الغلمان عن أنفسهم جهارا نهارا أمام عدسات الكاميرا، وآخر يطلب من الناس عدم التحديق في وجوه الفتية المرد لأنها فتنة! وثالث يجعل من الرجل كله (عورة) عدا وجهه وكفيه، حتى أفضى بنا الأمر إلى الطامة الكبرى التي جعلت أحدهم يفتي بضرورة الفصل بين النساء والرجال في القبور. بالطبع سيبدو واضحا للمتابع الحصيف بأن أولئك طارئون على أرض الفتوى والوعظ، مهما أوهموا مريديهم بالحذر من المؤامرة التغريبية ضدهم، ومهما حاولوا الادعاء بأن من يستنكر خطابهم إنما يحط من شأن الدين نفسه، لكننا في الواقع قطاع كبير من المجتمع بات يعي أنهم هم بذاتهم باتوا عبئا وعوارا على هذا الدين، فما تكاد الفتوى من هذا النوع تصدر من أفواههم حتى تتخطفها ألسنة الناس في لغط وجدل واسع ومن ثم تنتقل إلى دوائر إعلام متربصة لتدرجها كفرصة ذهبية ضمن الحروب المذهبية، بينما الإعلام العالمي يوردها بشكل ماكر كفقرة تندر وتكريس للصورة النمطية، ليضيفوا المزيد من الغامق وتهم الرجعية إلى سلتنا. السؤال ما الجهة التي تحمي المجتمع من منحرفي مهنة الوعظ ومرتكبي المنكر؟ هل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولة،أم هل هي وزارة الشؤون الإسلامية؟ بحيث تستصدر بطاقة واعظ لاتمنح إلا تحت شروط وتدقيق كبير، ويتصدر تلك الشروط التوازن والاستواء النفسي؟ لكن أن تترك هذه السوق للفوضى والمغامرات والتخرصات، فهو أمر خطير للغاية وله تبعاته الوخيمة، لاسيما مع ما شهدناه من تبعات فوضى الفتاوى على تيارات العنف والإرهاب السياسي. ما يقامرون به هو ديننا وتاريخنا وهويتنا، ما يعبثون بها هي صلة ودرب من رحمة وضياء نسلكها يوميا إلى رب العالمين.. فما بال أولئك يترصدون بدربنا وينثرون الغثاء والشوك؟ وزارة الشؤون الإسلامية تحمل على عاتقها مسؤوليات عظمى، ولابد أن تتصدى بدورها لهذه المسؤوليات المعنية بتنظيم.. «الوعظ». لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net