للوهلة الأولى هناك شيء يكاد يكون غير واقعي وغير عملي في جهود جون كيري لإحياء محادثات السلام الإسرائيلية - الفلسطينية. لا شك أن وزير الخارجية الأمريكي كان مندفعاً في مشروعه، لكن من غير الواضح إن كان يتمتع بدعم تام من البيت الأبيض. وعلى أي حال، ألا يفترض بالبيت الأبيض أن يركز على أمور أكثر إلحاحاً مثل الحرب الأهلية في سورية والانقلاب في مصر؟ لا يمكن لأي شخص أن يبدو وكأنه أحمق حين يعرب عن تشاؤمه من عملية السلام في الشرق الأوسط التي لا ينطبق اسمها عليها. ويظن كثيرون أن دعم إسرائيل لعمليات الاستيطان في الضفة الغربية حولت أي نقاش حول الدولتين إلى مسألة نظرية. وبالنسبة لباراك أوباما، متى كانت آخر مرة أقدم فيها الرئيس الأمريكي على مخاطرة سياسية ترتقي إلى مستوى خطاباته الفصيحة؟ ويقول بعضهم إن الدبلوماسية المكوكية انعكاس لفكرة ذاتية أكثر من كونها إمكانية حقيقية لتحقيق تقدم كبير. لكن هناك طريقة أخرى للنظر إلى ذلك. وإذا أخفق كيري، فإن لعبة الدولتين ستكون قد انتهت فعلاً. وسيتحول الانتباه إلى حقوق الفلسطينيين العالقين في مناطق الحكم الذاتي المغلقة. وستكون إسرائيل ملزمة بأن تتعامل مع الخيار الذي كانت تتجنبه دائماً، وهو أن دولة تمتد من البحر المتوسط إلى نهر الأردن لا يمكن أن تكون يهودية وديمقراطية في الوقت نفسه. أما بالنسبة لأي أولويات إقليمية أخرى، فما الذي يمكن للولايات المتحدة أن تفعل خلاف ذلك؟ قبل عدة أيام من وقوع الانقلاب في مصر، كانت واشنطن تسعى لإقناع العسكر بعدم عزل الرئيس محمد مرسي، لكنهم تجاهلوا نداءات أمريكا. ومنذ ذلك الحين، تبذل الولايات المتحدة جهدها لتقف في صف الجنرالات، بأن توافق على أن الطريقة التي تمت بواسطتها الإطاحة بحكومة منتخبة لم تكن انقلاباً. ولا بد أن أوباما أصبح معتاداً على النكسات. ففي آب (أغسطس) 2011 طالب برحيل الرئيس السوري بشار الأسد. وقال: "آن الأوان لأن يرحل الرئيس الأسد". وها قد مرت سنتان ولا يزال الرئيس السوري ثابتاً في موقعه. وكان هناك زمن حين كان رئيس أمريكي يقول إن على شخص ما الرحيل، فلا بد لهذا الشخص أن يرحل بطريقة أو بأخرى. والأوروبيون أضعف حتى من ذلك. تصورت بريطانيا وفرنسا أن الإطاحة بمعمر القذافي هي الدور المناسب لأوروبا في أعقاب الانتفاضات العربية. لكن النجاح التكتيكي في عزل القذافي مهد السبيل أمام إخفاق استراتيجي في الوقت الذي تسقط فيه ليبيا في فوضى مسلحة. وكانت لندن وباريس تضغطان لرفع الحظر عن مبيعات الأسلحة إلى القوات المناهضة للنظام في سورية. ومنذ ذلك الحين أخذت قوات الأسد في التقدم، ومع ذلك تخلت بريطانيا الآن عن فكرة تسليح الثوار. وحين عُزل مرسي، طلب الزعماء عبر أوروبا من مستشاريهم معرفة الرد الذي يمكن أن يصدر عنهم. وكان الجواب غير المريح "لن تستطيعوا فعل الكثير". وقبل فترة ليست بالطويلة كان الحديث يجري عن أنموذج جديد لنزعة التدخل يجمع بين شعور الناخبين بالتعب من الحرب وحماية المصالح الأوروبية، يستطيع من خلاله الغرب أن يلعب دور المايسترو لأوركسترا القوى الإقليمية. لكن هذه القوى تعزف الآن ألحانها الخاصة. ومن وقت إلى آخر تمسك إحدى هذه القوى بعصا المايسترو. وعزوف واشنطن عن تسمية الانقلاب بالانقلاب تُفسَّر باهتمامها بأن تحتفظ بقوة الرفع من خلال تجنب الإيقاف التلقائي للمساعدة العسكرية الأمريكية. وفي حالة بريطانيا، شعرت الحكومة بأنها ملزمة بالانحناء أمام ضغط القوى الداعمة للنظام الجديد في القاهرة. وبرنامج "المحور" الآسيوي الذي وضعه الرئيس أوباما وجرت حوله طنطنة كثيرة، كان المقصود منه إجراء تحول مدروس بعيداً عن الشرق الأوسط. وكما أثبتت التطورات فيما بعد، كان العالم العربي متقدماً بمسافة كبيرة على البيت الأبيض من حيث استباق الأحداث. لقد استنتج العرب، وليس في ذلك ما يدعو إلى المفاجأة، أنه إذا كانت الولايات المتحدة تريد الخروج، فمن الأفضل لهم أن يواصلوا القتال ويحلوا مشاكلهم بأنفسهم. ورغم أن هناك عدداً لا يحصى من الصدوع الأصغر، إلا أن الشرق الأوسط يتحدد الآن بخطوط الصدع السنية الشيعية – حيث تقف السعودية ودول الخليج على جانب، وتقف إيران وأتباعها على الجانب الآخر. ولا يوجد أي نوع من التدخل العسكري الغربي قادر على تسوية النزاعات المتولدة من هذا التنافس الطائفي. وتُرِك للولايات المتحدة مهمة احتواء إيران الشيعية وحزب الله على جانب، ومحاولة صد الجهاديين السنة على الجانب الآخر. وسيجادل كثيرون بأنه لا يمكن عمل الكثير. وهذا الأسبوع صب الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، عدداً من الدلاء الباردة على أولئك الذين يظنون أن عملية عسكرية محدودة يمكن أن تقلب ميزان القوى بصورة حاسمة في سورية. فقد قال إن التدخل يعني الحرب، مع كل ما يترتب على ذلك من تكاليف في الدم والمال والعواقب غير المنظورة. ومع ذلك، من الخطأ أن نستهين بحدود القوة الغربية مثلما أن من الخطأ أن نبالغ في تقديرها. وقبل فترة عبر عن هذه النقطة تعبيراً جيداً ديفيد ميليباند، وزير الخارجية البريطاني السابق الرصين، والمتوجه إلى نيويورك ليترأس لجنة الإنقاذ الدولية. ففي كلمة ألقاها في محاضرة سنوية في مؤسسة ديتشلي، حذر ميليباند من أن عدم الاكتراث الغربي سيتمخض عن عقد من الحرب يليه عقد من الفوضى. وتظل الولايات المتحدة أقوى أمة على وجه الأرض من الناحية السياسية والعسكرية على نحو يفوق أي قوة منافسة، كما تتمتع بنفوذ اقتصادي هائل. كذلك تمسك أوروبا، على الرغم من جميع الجروح التي ألحقتها بنفسها، بمقاليد قوة اقتصادية ودبلوماسية لا يستهان بها. والأمر الواضح هو أن على الأمريكيين والأوروبيين واجبا في تخفيف العواقب الإنسانية للصراع، ولهم مصلحة في القيام بذلك. كذلك لديهم قدرة فريدة على استقطاب الضغط الإقليمي والدولي من أجل الوصول إلى تسويات سياسية. وليس لهذا الدور بريق أو جاذبية. فالمفاوضات لا تحتل عناوين الأخبار بالطريقة التي تحتلها صواريخ كروز، وغالباً ما يكون الفشل هو مصير هذه الجهود، لكن كما قال أحد رؤساء الوزراء البريطانيين ذات مرة، ليس هناك مجال لبديل آخر. وكما تعلمت إسرائيل على الأرجح، فإن الأمر الوحيد الذي لا يجلب السلام هو الحرب. بالتالي كيري على حق. وينبغي أن نصفق له.