نتحدث في هذه المقاربة عن علاقة السياسي بالثقافي في المجتمع العربي، انطلاقاً من قناعتنا بأن هذه العلاقة ترتبط ببنية المجتمع وليست مجرد ترف فكري تطرحه النخب الثقافية على مستوى الأبحاث المتخصصة والفكر الأكاديمي؛ لأن أقطاب الفكر العربي يُسقطون في الأغلب المقولات والتصورات المتعلقة بهذه العلاقة الإشكالية، المتداولة على مستوى فكر وإبداعات الآخر، على واقع فكرنا العربي، ويتساءلون من ثمة عن عجز الممارسة الثقافية العربية عن التأثير بشكل فاعل في المجال السياسي، وفي المجال العمومي بشكل عام. ويحدث في الأغلب إذاً، أن يلجأ الدارسون إلى ممارسة نوع من المقارنة الآلية ما بين المجالين، يسقطون من خلالها مفاهيم الثقافة وتحليلاتها النظرية على السياسة، وكأنهما ينتميان إلى مجال موّحد، ويخضعان من ثمة إلى المقولات نفسها. بيد أن الحرص على فهم أحدهما بمعزل عن الآخر لا يعني البتة غياب أي رابط بينهما، ولكن يتعلق الأمر في المحصّلة بمحاولة اعتماد منهجية قائمة على الفصل والوصل في اللحظة نفسها، حتى نستطيع فهم المجالين في سياق تداولهما الخاص والمستقل من جهة؛ وفي سياق علاقتهما الجدلية والمترابطة، التي تجعل السياسي يستحضر منتجات الثقافة ويوظفها في خطابه، وتجعل الثقافي ينخرط في النقاش السياسي الذي يفرضه المجال العمومي المشترك من جهة أخرى. نلاحظ أنه بالنسبة إلى الوضع العربي العام، وخلافاً لما هو شائع من تحليلات، فإن المجتمع هو المسؤول عن اضطراب العلاقة ما بين السياسي والثقافي، وهو الذي يتحمّل المسؤولية عن هيمنة السياسي على الثقافي، لأنه لم يستطع أن يطوِّر قواعده المتعلقة بإنشاء وتحديث الجمعيات والهيئات الأهلية التي يمكنها أن تُسهم في خلق مجتمع مدني مؤثر وفاعل يبني السياسة على معطيات الثقافة العالِمة، ويدفع المثقف إلى الخروج من بروجه العاجية والانخراط بشكل مثمر وفعّال في الحوار والنقاش العمومي الذي تفرضه الممارسة السياسية المجتمعية، لاسيما وأن المجتمع يلعب دوراً حاسماً في خلق وتكوين النخب السياسية المتنوِّرة التي يمكنها أن تنخرط في المسار الثقافي المجتمعي وترفض في الآن نفسه، كل أشكال الشعبوية والغوغائية. ويتم في سياق هذا الفضاء المتداخل بناء عناصر الهوية الجماعية القادرة على مواجهة التحديات الخارجية التي تفرضها سياسات العولمة، والتي ما فتئت تخترق المجتمعات في العمق، وتهدّد تجانس واستقرار الدول الوطنية. هناك من جانب آخر مسألة تتعلق بمعاني ودلالات مفهوم الثقافة وبمستوى فهم الإنسان العربي وتمثله لهذا المفهوم ولكل عناصره وتجلياته، واعتقاده من ثمة أن الثقافة تمثل بنية منغلقة على نفسها لا تعني سوى المشتغلين بها، ويتحمّل هذا التصور النخبوي للثقافة جانبا كبيراً من المسؤولية عن اضطراب العلاقة بين السياسي والثقافي في مجتمعنا؛ كأن الثقافة لا صلة لها بحياة الناس اليومية، ولعلّها تكون في أحسن الأحوال جزءاً من الترفيه المرتبط بفنون المتعة السهلة والرخيصة؛ ويمكن الزعم في هذا المقام، أن المثقف العربي يُسهم إلى حد بعيد في تقديم صورة مشوّهة للثقافة ولدورها المجتمعي في سياق المجال العمومي. وهكذا يقع مفهوم الثقافة ضحية لأُفقه المتعالي في سياق الممارسة الثقافية العالِمة، التي تعطي انطباعاً متسرّعا وغير صحيح، مؤداه أن الثقافة لا صلة لها بالحياة في نبضها الحي وبالمُعاش اليومي، وأنها شأن يعني المتخصصين بالدرجة الأولى، الأمر الذي يجعل النسق الثقافي العربي يبدو كأنه نسق مغلق ينفر من السياسة ومن هموم ومشاغل الناس؛ وتلك لعمري صورة تخدم السياسي بامتياز، لأنها تساعده على عزل الثقافي وعلى تحييده، وعلى الانفراد بالتالي بمهمة توجيه القوى المجتمعية المؤثرة في المجال العمومي من أجل خدمة أطروحاته وأجنداته. ويمكن القول إن التاريخ المشترك للسياسي والثقافي يتميّز بالكثير من التعقيد وبركام كبير من سوء الفهم، وربما بكثير من الكراهية ومن الغواية وحتى من التبعية المتبادلة في كثير من الأحيان، حيث يصمت السياسي عن الثقافة جهلاً أحياناً وتجاهلاً في أحيان أخرى، ويسكت المثقف عن الخوض في السياسة إمّا خوفاً وإما ازدراءً لسياسة يرى فيها إسفافاً وتسطيحاً للنقاش العام ولأبجديات العمل الفكري الرصين. ونستطيع أن نلاحظ أن هذا الثنائي يعيش في حالة من الهدوء والدّعة في سياق الحضارة الغربية الراهنة، بالرغم من كل التجاوزات التي تحدث هنا وهناك، وبخاصة من قبل السياسي، لأن سلطة النقد والمشاغبة التي يمتلكها الثقافي تجعله يعيد التوازن إلى المعادلة الصعبة في أسرع وقت وبأقل أضرار ممكنة. أما في محيطنا العربي والإسلامي فإن المثقف عاجز تماماً عن التأثير في المشهد السياسي، ويلجأ في الغالب إما إلى المعارضة الراديكالية وإما إلى الموالاة الكاملة لأن المنطقة الرمادية عادة ما يرسمها ويهيمن عليها السياسي، بينما تغيب هذه المنطقة التوافقية لدى صاحب الخطاب الثقافي المكبّل بأغلال التاريخ الممتد من عصر شعراء البلاط إلى مثقفي أحزاب السلطة الحاكمة، أو مثقفي اليسار وأحزاب الأممية الإسلامية. وعليه فإن تدخل الدولة في الشأن الثقافي في الفترة المعاصرة، وبالرغم من بعض آثاره الإيجابية على التنمية الثقافية، إلا أنه لم يُسهم في إحداث التوازن المنشود داخل هذه العلاقة الشديدة التوتر ما بين السياسي والثقافي. نخلص في ختام هذه الإطلالة السريعة على هذا الموضوع الشائك، إلى القول إن التوازن الهوياتي داخل المجتمعات العربية يرتبط إلى حد كبير بقدرة الدولة العربية الحديثة على إعادة التوازن بين طرفي معادلة الثقافة والسياسية، وبخاصة إذا أردنا أن نحافظ على المكاسب الاجتماعية التي حققتها أغلب الدول في الوطن العربي. ولتحقيق ذلك يجب أن يتحوّل كل مثقف إلى فنان بالمعنى السامي والجليل للكلمة، أي أن يكون فناناً في اختصاصه قبل أن يتحدث عن اختصاصات وفنون الآخرين، حتى يمكنه أن يمارس دوره الريادي داخل المجتمع ويتخلص من عقدتي التفوق والدونية اللتين تحاصرانه في علاقته برجل السياسة؛ لأن التجارب العالمية دلّت على أن المثقف العضوي، بالمعنى الذي كان يقصده أنطونيو غرامشي، هو الذي يستطيع أن يدفع السياسي إلى تغيير مواقفه وآرائه وتمثلاته لما هو ثقافي، من خلال دفع السياسي إلى ولوج أعتاب وفضاءات الثقافة التي يُفترض أن تكون أقل نخبوية وأكثر انفتاحاً على هموم وتطلعات المجتمع. hzaoui63@yahoo.fr