معروف أن العسل غذاء طبيعي تصنعه النحلة من رحيق الأزهار والأشجار وتحوله إلى سكريات ويحتوي على الصفات الطبيعية والكيميائية والفيزيائية، وهو ما أثبته الخالق بقوله سبحانه يَخرُجُ من بطونِها شرابٌ مختلفٌ ألوانهُ فيهِ شفاءٌ للناس، ويأخذ الكلام والفعل الإنساني من العسل صفة الحلاوة، ولذلك يقال فلان كلامه عسل أو لسانه ينقط عسل، وقد وهب الله بعض الناس أسلوباً ساحراً آسراً بلغته الجميلة، وتصاحبها فنيات كثيرة بعضها يرتبط بالصوت وبعضها بالإيماءات والحركات، وبعضها بما يضيفه على المعلومة من ثقافة ومن حكم وأمثال وغيرها تجعل من الأسلوب محلقاً ومدهشاً ومؤثراً، ويمتلك قدرات بيانية هائلة تمكنه من الوصول من أيسر وأقصر الطرق إلى الناس. وبهذا فإن المتلقي الذي يستمع إليهم يشعر وكأنه مسحور بما يسمع، وهو ما أكده قول نبي الرحمة إنَّ من البيان لسحرا ولهذا البيان خطورته إذا تم استغلاله في غير محله، فقد جاء التحذير منهم من فوق سبع سماوات واصفاً هؤلاء بالنفاق، فهم الذين يتخذون من نعمة البلاغة والفصاحة وسحر البيان سبيلاً إلى التضليل والتدليس، وجر الخلق إلى طرق ممهدة مفروشة بالورد في مداخلها، وهي في الحقيقة توصل إلى الجحيم وتجر الويلات على البشرية، وقال عنهم من أنزل كتابه ليكون نبراساً يهتدي الناس به في حياتهم ويسعدهم في الدارين وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ، وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ، فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. ولكي يتم اكتشاف هذه الألاعيب وفضح هذه الخدع البيانية، فلا بد من مرحلة تأسيسية سليمة، ولا تكون هذه البداية بهذه الصلابة إلا إذا بدأت من الصغر، فمرحلة الطفولة هي مرحلة الحرث ورمي البذور وسقيها، فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر، وهو ما تعلمناه في بدايات الدراسة، وأستحضر مقولة لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وهو يتحدث عن العقل ودور الثقافة في صد كثير من الغزوات الفكرية، ومحاورة أصحاب العقول المنحرفة أو التي تعرضت للتدليس بحكمة واحترام إن البطون إذا جاعت أكلت الجيَف وكذلك العقول إذا جاعت أكلت عفونة الأفكار، لذا يجب ألا نعطي العقول فرصة للجهل. كنا منذ سنين نستمع إلى البعض وإلى محاضراتهم وأحاديثهم الساحرة، وشربنا من عسلهم كثيراً، فهم في الحقيقة يتحدثون بأسلوب مقنع وجميل ويدل على الخير ويهدي إليه، وحين يتحدثون عن الخصم يصفونه بصفات جميلة ليقتنع المستمع أنهم أصحاب حق وإنصاف، ولم يتضح لنا أن من وراء هذا القول هدفاً بعيداً يمهدون لحدوثه بتهيئة العقول والأفكار إلى اللحظة الحاسمة، لكن أحداث الزمان تكشف الواقع وأن حبل الكذب كما يقال قصير، لكن الاكتشاف لا يكون سهلاً إلا بما تقدم من فكر سليم أسسته المرحلة الأولى من الحرف والدراسة، فكان للتربية الوطنية والإسلامية واللغة العربية ودراسة التاريخ دور كبير في التصدي لضلالات الكثيرين، واسهمت هذه البذر الطيبة في التخلص من السم القاتل الذي دس في العسل، والبشرية محتاجة إلى صاحب العلم والمعرفة والثقافة السليمة الذي لا يملأ العقول بعفونة الأفكار، بل بالفكر الذي يجعل من استقرار المجتمعات وسعادتها وأمنها هدفاً حقيقياً، ومن خلال هذا الهدف السليم يستطيع الإنسان أن يتصدى إلى أصحاب الإرهاب الفكري والثقافي، وإلى تمزيق قناع أولئك الثعالب الذين قال عنهم الشاعر: ولا خيرَ في ودِّ امرئٍ متلوّنٍ حلوُ اللسان وقلبُه يتلهَّبُ يعطيكَ من طرفِ اللسانِ حلاوةً ويروغُ عنكَ كما يروغُ الثعلبُ محمد عبد الله البريكي hala_2223@hotmail.com