مهند مخبر يعمل لحساب «داعش» يسترق السمع على الأحاديث في أسواق الموصل ويبلغ التنظيم بمن يخالف قواعده. قال صديق لأسرة مهند إن التنظيم عذب بائعا أرشد عنه مهند هذا العام كما فرض غرامة عليه. كان أحد باعة الشوارع وأبلغ عنه مهند حين خالف حظرا على بيع السجائر. وأنذر مقاتلو «داعش» البائع بأن عقوبته المقبلة ستكون القتل إن هو كرر فعلته. يتقاضى مهند 20 دولارا عن كل مخالف للتعليمات يساعد في ضبطه. أما عمره فلم يتجاوز 14 عاما. مهند ليس سوى حلقة في شبكة مخابرات أسسها «داعش» منذ أن وضعت يدها على مساحات شاسعة من العراق وجارته سوريا. أما المخبرون فمنهم أطفال ومنهم مقاتلون أصقلتهم الحرب ومنهم ما بين هؤلاء وأولئك. وحسب تقرير لوكالة «رويترز»، يشرف على الشبكة ضباط سابقون بالجيش والمخابرات كثيرون منهم ساعدوا في بقاء صدام حسين وحزب البعث في السلطة لسنوات. وكان ضباط عملوا في عهد صدام عاملا قويا في صعود «داعش» وبخاصة فيما حققه التنظيم السني المتشدد من انتصارات بالعراق العام الماضي. وفاق «داعش» حزب البعث قوة واجتذب آلافا من أنصاره. وانضم المجندون الجدد إلى صفوف ضباط صدام الذين يشغلون بالفعل مناصب مهمة في التنظيم المتطرف. وعكف البعثيون على تعزيز شبكات جمع المعلومات التابعة للتنظيم وعززوا من التكتيكات على ساحات المعارك وهم عنصر رئيسي في بقاء ما يسمى «دولة الخلافة» التي أعلنها زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي وذلك وفقا لما ورد في مقابلات أجريت مع عشرات، من بينهم قياديون سابقون بالحزب وضباط سابقون بالمخابرات والجيش ودبلوماسيون غربيون و35 عراقيا فروا في الآونة الأخيرة من مناطق يسيطر عليها التنظيم إلى كردستان. ويقول هشام الهاشمي، المحلل العراقي الذي عمل لدى حكومة العراق، إن من بين حقائب «داعش» الثلاث والعشرين يدير ضباط سابقون عملوا في نظام صدام ثلاثا من أهم الحقائب ألا وهي الأمن والجيش والمالية. بدوره، قال وزير المالية العراقي هوشيار زيباري - وهو كردي قضى سنوات في معارضة نظام صدام - إن البعثيين السابقين الذين يعملون مع «داعش» يقدمون للتنظيم إرشادات قيمة في ما يتعلق بالمتفجرات والاستراتيجية والتخطيط. وأضاف: «هم على دراية بالأفراد والعائلات اسما اسما». ويوافقه الرأي مسؤول أمني كبير سابق في حزب البعث قائلا «بصمات الدولة العراقية القديمة واضحة في عملهم. يمكنك أن تحسها». تعاون الطرفين زواج مصالح من أوجه كثيرة. فليس ثمة عامل مشترك يذكر يجمع بين معظم ضباط البعث السابقين وتنظيم داعش. لكنّ كثيرا من البعثيين السابقين الذين يعملون مع «داعش» تدفعهم رغبة في الحفاظ على النفس وكراهية مشتركة للحكومة التي يعتبرونها طائفية في بغداد. وهناك آخرون مؤمنون بفكر التنظيم بعد أن سلكوا طريق التشدد في السنوات الأولى التي أعقبت الإطاحة بصدام وبعد أن آمنوا بذلك النهج في ساحات المعارك أو في السجون العسكرية الأميركية أو السجون العراقية. وقال قائد أمني سابق عمل في جهاز المخابرات العامة العراقي من عام 2003 إلى عام 2009 إن بعض البعثيين السابقين الذين أبعدتهم حكومة العراق عن أجهزة الدولة كانوا في منتهى السعادة لمجرد أنهم وجدوا مظلة جديدة تظلهم. وأضاف أن تنظيم داعش «يدفع لهم». وتأمل قلة قليلة من المشرعين السنة في إقناع ضباط صدام السابقين بترك حلفائهم في «داعش». لكن مسؤولا كبيرا قريبا من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي قال إن التعامل مع هؤلاء صعب لأن البعثيين منقسمون بشدة بين مؤيد لـ«داعش» ومعارض له. وتساءل «من هم؟بعضهم يلوح بغصن الزيتون والبعض يلوح بالسلاح». وقال سعد الحديثي المتحدث باسم العبادي إن الحكومة تعارض التفاوض مع البعثيين. وأضاف: «لا مكان لهم في العملية السياسية.. هم محظورون بموجب الدستور». وبعد الإطاحة بصدام حسين عام 2003 بدأ سريعا بعض البعثيين في التعامل مع تنظيم القاعدة في العراق والذي كان البذرة التي انبثق عنها ما أصبح يعرف بتنظيم داعش. ومع اجتياح مقاتلي «داعش» لوسط العراق انضم إليهم جيش رجال الطريقة النقشبندية وهي جماعة تضم مقاتلين بعثيين. ويقول شيوخ عشائر سنية وبعثيون وقائد أمني عراقي إن معظم المقاتلين خلال المراحل الأولى من الحملة العسكرية في العام الماضي كانوا من رجال الطريقة النقشبندية ومن مجموعات أصغر من ضباط صدام. وقال مسؤولون عراقيون وعبد الصمد الغريري المسؤول الكبير في حزب البعث إن رجال الطريقة النقشبندية هم الذين جمعوا سكان الموصل في الانتفاضة على بغداد وهم الذين خططوا وقادوا جانبا كبيرا من الزحف العسكري في العام الماضي. وقال الغريري إن تنظيم داعش «انتزع الثورة منا» رغم ذلك. وأضاف «لم نستطع الصمود في المعركة». وفي تكريت فتح مقاتلو «داعش» سجنا وحرروا ما يصل إلى 200 من أنصار التنظيم. وتدفق المزيد من مقاتلي «داعش» على المدينة، كثيرون منهم مسلحون بأسلحة آلية ثقيلة. وقال مسؤول أمني كبير في صلاح الدين إن هؤلاء «أخذوا كل أسلحة الجيش ولم يعطوا رجال الطريقة النقشبندية شيئا. ركلوهم». وبعد قليل من سقوط تكريت في يونيو (حزيران) 2014 التقى زعماء الفصائل السنية الرئيسية في منزل أحد أعضاء حزب البعث. وقال المسؤول الأمني الكبير وشيوخ عشائر من تكريت ومسؤولون بعثيون إن «داعش» خير البعثيين: إما أن تنضموا إلينا وإما أن تنتحوا جانبا. وتخلى بعض البعثيين عن التمرد وبقي آخرون ليملأوا صفوف «داعش» الوسطى بذوي الخبرات الأمنية. وعزز هذا قوة نيران التنظيم وقوته التكتيكية. وعلق قيادي سني بارز قاتل تنظيم القاعدة: «هذا ليس (القاعدة) التي قاتلناها من قبل»، مضيفا: «تكتيكاتهم مختلفة. هؤلاء أناس تعلموا في كلية أركان حرب. هم قادة سابقون في الجيش وليسوا من ذوي العقول البسيطة. هم أصحاب خبرة حقيقية». وقال كل من الغريري وخضير المرشدي، الناطق الرسمي بلسان حزب البعث، إن الجناح المسلح للحزب في حالة جمود بعد هزيمته. وقالا إن تنظيم داعش قتل نحو 600 من أنصار البعث ورجال الطريقة النقشبندية. وترى ايما سكاي، المستشارة السابقة بالجيش الأميركي، أن تنظيم داعش ابتلع البعثيين فعليا. وقالت: «الضباط ذوو الشوارب المنمقة أطلقوا لحاهم. أعتقد أن كثيرين أصبحوا ملتزمين دينيا فعلا». وقال المسؤول الأمني البارز في صلاح الدين وعدد من شيوخ العشائر إن من أبرز البعثيين المنضمين لـ«داعش» أيمن السبعاوي ابن أخي صدام حسين ورعد حسن ابن عم صدام. وكلاهما كان طفلا أيام صدام لكن الصلات الأسرية تحمل دلالة رمزية قوية. ومن الضباط الكبار في «داعش» الآن وليد جاسم الذي يعرف أيضا باسم أبو أحمد العلواني وكان نقيبا في المخابرات في عهد صدام وكذلك فاضل الحيالى المعروف باسم أبو مسلم التركماني والذي يعتقد البعض أنه كان نائبا لأبو بكر البغدادي إلى أن قتل في ضربة جوية هذا العام. وتشرف الوكالة الأمنية للتنظيم على أجهزة الأمن والمخابرات بالتنظيم في الموصل أكبر مدن شمال العراق. وللوكالة ستة أفرع كل منها مسؤول عن الحفاظ على جانب من جوانب الأمن المختلفة. وعلى رأس الوكالة الأمنية في العراق وسوريا ضابط مخابرات سابق من الفلوجة عمل في عهد صدام هو إياد حامد الجميلي الذي انضم للتنظيم السني بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة ويعمل الآن تحت إمرة البغدادي مباشرة وفقا لما ذكره المحلل العراقي هشام الهاشمي. وتتولى «الحسبة» مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشوارع. ويعاقب العاملون في الحسبة كل من يرونه مخالفًا لأحكام الشريعة بدءا من باعة السجائر وانتهاء بالنساء اللاتي لا يلتزمن بالحجاب الكامل. وتدير الحسبة أيضا شبكة من المخبرين؛ فتزرع أطفالا وفتية من أمثال مهند البالغ من العمر 14 عاما في المساجد والأسواق وتزرع نساء في الجنائز والتجمعات العائلية وفقا لما رواه سكان بالموصل. وقال ضابط المخابرات السابق: «يجازى هؤلاء الأطفال بالهدايا أو بمكافآت مالية صغيرة. أما النساء فيجري تجنيدهن في الأغلب من عوائل (مقاتلي التنظيم) وهن يجمعن المعلومات دون مقابل». ويقول سكان إن القمع بات شديدا في الموصل حتى إن الناس بدأوا يرددون عبارة كانت متداولة في عهد صدام «الجدران لها آذان». وألقت مقابلات مع 35 رجلا فروا في الآونة الأخيرة من قرى حول الموصل يسيطر عليها «داعش» الضوء على تفاصيل نادرة لما يجري داخل الأراضي الخاضعة للتنظيم. وعلمت «رويترز» بهذه الروايات من خلال المقدم سرود عبد الصلال وهو مسؤول مخابرات كردي في قاعدة تقع وراء خط الجبهة جنوب أربيل. ومعظم أصحاب الروايات أعضاء سابقون في قوات الأمن العراقية التي هزمها «داعش» بالموصل. تحدث الرجال الخمسة والثلاثون عن تضييق على مناحي الحياة وعن مناخ من الشك المرضي لا يمكن الوثوق فيه بأحد حتى بين الأقارب. وأخبر رجل بالموصل «رويترز» عن أخيه الذي أعدمه «داعش» في أوائل أكتوبر (تشرين الأول) بعد أن سب «داعش» أثناء جدال مع ابنه الذي كان يريد الانضمام للتنظيم. قال الرجل: «كان أخي يصيح وسمعه الجيران. في تلك الأثناء كانت مجموعة من الصبية تلعب أمام البيت. ولم يمض أسبوع حتى اعتقل أخي بتهمة سب الدين وتنظيم داعش». وقال أحد السكان إن فرق الإعدام التابعة للتنظيم تجيء عادة في حافلة كبيرة نوافذها داكنة. وتغلق الشرطة الشوارع المحيطة بالمكان الذي سينفذ فيه الإعدام. وينفذ رجال مقنعون يرتدون السواد الإعدام إما بإطلاق النار أو بقطع الرأس. ويروي عدد من الفارين أن الوكالة الأمنية التابعة لـ«داعش» جمعت في سبتمبر (أيلول) نحو 400 من أفراد قوات الأمن العراقية السابقين وأعدمتهم. وتسلمت أسر من أعدموا ورقة تفيد بتنفيذ الإعدام في ذويهم. ويصف شاب عمره 21 عاما من قرية تقع إلى الشرق من الموصل كيف أن جثة ابن عمه وصلتهم في ثاني أيام عيد الأضحى. قال: «أحضروها ملفوفة بملاءة وبها ثلاث رصاصات». وقال بعض الفارين الخمسة والثلاثين إن الناس ممنوعون من مغادرة أراضي «داعش». ومن يضبط وهو يحاول الهرب يكون مصيره الموت. ويقول الفارون إن «داعش» زرع نفسه في كل قرية تقريبا وحول بيوت ضباط الجيش العراقي السابقين إلى قواعد وأقام شبكة من المخبرين ومنع استخدام الهواتف الجوالة وكذلك الإنترنت. وقال بعض الفارين إن قادة «داعش» يرسلون أبناءهم لاستطلاع خبايا الأمور. وقال أحدهم إن المتشددين دفعوا مالا لباعة سجائر كي يبلغوا عمن يشترون منهم. وقال سعد خلف علي الشرطي البالغ من العمر 31 عاما إن شبكة جواسيس «داعش» منتشرة، حتى إن الناس لا تتخلى عن الحذر داخل منازلها. كان علي قد ألقي القبض عليه بتهمة التحدث بصورة غير لائقة عن التنظيم. نفى.. لكن مقاتلي التنظيم أظهروا له لقطات وهو في منزله يتمنى أن تستعيد القوات الحكومية المنطقة. وقال الشرطي إن الفيديو صوره خلسة صبي من القرية. وتابع «يستغلون الأطفال الصغار لأن الناس لا ترتاب في أمرهم». توسل علي للمتشددين كي ينال العفو وأفرجوا عنه بالفعل. لكنهم ما لبثوا أن أمسكوا به بعد أشهر بتهمة إبلاغ القوات الكردية والعراقية عن مواقع للتنظيم. هذه المرة كان من أبلغ عنه هو ابن أخيه وابن عمه. كان سيعدم لولا أنقذته غارة مشتركة من القوات الأميركية والقوات الكردية الخاصة في أكتوبر هو و68 آخرين.