من المسلمات الطبيعية في هذا الوجود أن لكل فعل ردة فعل مماثلة له في القوة ومعاكسة له في الاتجاه!! من ذلك أنه لما كثر حديث الناس عن مظاهر الفساد والقصور في الخدمات التي تقدمها المؤسسات العامة وتزايدت الشكاوى والتذمر من كثرة وقوع الأخطاء وتكرر حالات الإهمال واللامبالاة، شعر البعض بامتعاض من سماع ذلك الخطاب السلبي عن المؤسسات الوطنية وتردي خدماتها العامة المتاحة في المجتمع، فظهر خطاب آخر مختلف كردة فعل مضادة، وصرنا نسمع تردد خطاب جديد مغاير ينهى عن جلد الذات وينادي بالنظر إلى الإيجابيات ويرى في الخطاب السلبي عن مؤسسات الوطن وما يعتريها من قصور، مظهرا من مظاهر غياب الحس الوطني، فالوطنية الصادقة حسب هذا الخطاب الجديد، تستدعي عدم التركيز على العيوب والانصراف إلى ذكر المنجزات والإشادة بها. ومع حسن الظن في غاية كلا التوجهين اللذين لا ينشدان سوى المصلحة العامة، وإن اختلفت الأساليب، إلا أني أراهما كليهما متطرفين تطرفا لا يجدي، وكما أن التركيز على رؤية العيوب وحدها محبط وباعث على التشاؤم ومؤدِ إلى فقد الثقة بالنفس، فإن التركيز على المزايا وحدها هو أيضا أمر مضلل، وباعث على التراخي وعدم التغير إلى الأفضل. لكن الأسوأ من هذا أن أصحاب الاتجاهين المتضادين باتا يتحاربان كل منهما يتهم الآخر بالسوء، فمن لا يقول إلا نقدا وإعابة يعد خائنا لوطنه، يحصي عيوبه ليشهر به، ومن لا يقول إلا مدحا وثناء يعد منافقا متزلفا، يكذب ليحقق لنفسه مصالح خاصة. هذه الحرب الناشبة بين الطرفين المتضادين، هي سمة من سمات ثقافة المجتمع التي يغلب عليها مع الأسف، سوء الظن بالآخر متى اختلف في توجهه وشق لنفسه طريقا خاصا لا تندمج في الطريق العام. إنه لا يمكن إنكار أن بلادنا تتقدم في مجالات مختلفة، خاصة في مجال العلم والمعرفة، وأن هناك مزايا نتمتع بها لا ينعم بمثلها غيرنا كمجانية العلاج والتعليم العالي وعدم وجود ضرائب على الدخل، ولكن أيضا من جهة أخرى نحن نعاني من تردي أوضاع العلاج في تلك المستشفيات المجانية ومن الزحام الشديد فيها وطول مدة الانتظار للحصول على سرير شاغر، كما نعاني من تردي التعليم المجاني إلى حد فقد الثقة فيه، بدليل كثرة الذين يلحقون أولادهم بالتعليم الأهلي ويبتعثونهم للتعلم خارج المملكة حتى وإن كانوا من الطبقة المتوسطة التي ليس لديها فائض من الثروة. إن بلادنا رغم ما فيها من خير، لا تزال تعاني من مشكلات كثيرة في التنمية، وهي مشكلات تحتاج إلى جهد المخلصين لحلها والتغلب عليها، لكن ذلك لا يكون إلا بوجود الرؤية النقدية. عكاظ