بعدما يناهز الخمس سنوات من عمر الأزمات الإقليمية في سوريا والعراق بدأت تركيا تحرك أوراقاً مباشرة لم تظهرها في السابق. عملت تركيا طويلاً على أن يكون لها موطئ قدم في العراق أولاً من خلال دعم جماعات معارضة للحكومة المركزية في بغداد. وثانياً عبر نسج علاقات مباشرة مع إقليم كردستان العراق. وتجلت مظاهر التعاون مع أربيل باستيراد تركيا للنفط الذي تستخرجه أربيل والذي تعتبره الحكومة المركزية في بغداد انتهاكاً لما ينص عليه الدستور، وتعيد تصديره إلى الخارج، ولا سيما إسرائيل. تجاهل تركيا لنصوص الدستور العراقي استكمل من جانب أحمد داود أوغلو عندما كان وزيراً للخارجية بانتهاك السيادة العراقية بزيارة إلى كركوك الخاضعة لسيادة بغداد من دون أخذ إذن بذلك. اليوم، ترسل أنقرة قوات تركية قدرت بمئة وخمسين جندياً مع عشرين دبابة وأسلحة إلى معسكر بعشيقة في شمال الموصل. هذا المعسكر كان قائماً وتقوم عناصر تركية بتدريب مقاتلين أكراد وعرب على القتال. الدعوة للتدريب جاءت من جانب محافظ نينوى أثيل النجيفي ومن رئاسة إقليم كردستان. ولم تعارض الحكومة العراقية ذلك. لكن طبيعة القوات التركية التي دخلت إلى بعشيقة طرحت علامات استفهام ومدى الحاجة إلى دخول دبابات تركية. هذا الدخول ألقى ظلالاً من الشك على النوايا التركية. فمهمة بعض العناصر التركية هي التدريب فيما القوات التي دخلت قتالية وثقيلة، وهو ما أثار هذه الشكوك في النوايا التركية. العديد من المراقبين يرون أن الخطوة التركية لا تنفصل عن التوتر المستجد بين روسيا وتركيا بعد إسقاط تركيا لطائرة روسية في الرابع والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الفائت، وأن تركيا تريد أن تحرف الأنظار عن حادثة إسقاط الطائرة وتدخل أطراف الصراع في قضية جديدة، وهي تعكس استعراض تركيا لعضلاتها، وأنها حاضرة ولن تنفع معها محاولات عزلها وإنهاكها بالعقوبات الاقتصادية. ويرى آخرون أن الخطوة التركية أتت في إطار استمرار دعم الجماعات المعارضة للحكومة العراقية المدعومة من إيران. وإذا كان كلا التفسيرين قابل للتصديق، فإن العامل الأساسي الذي يتحكم في السلوك التركي في شمال العراق، وفي العراق هو أن تركيا تنظر إلى مستقبل العراق بعين الشك من إمكانية تقسيمه الفعلي وبخرائط جديدة لا تصب في مصلحة تركيا. إذ إن سعي الأكراد لضم الموصل إلى إقليم كردستان يعني توسيع حدود الدولة الكردية في شمال العراق. فإقليم كردستان كان قد ضم كركوك ومحيطها بعد دخول داعش إلى العراق في يونيو/حزيران 2014. وبعد تحرير سنجار أعلن الإقليم أنها جزء من إقليم كردستان. أي إن الإقليم يضم إليه كل المناطق المتنازع عليها كما غير المتنازع عليها مع بغداد. وفي حال تحرير الموصل فإن الصراع عليها سيكون كبيراً. فالموصل بأغالبيتها عربية وليست منطقة متنازع عليها، وفي ظل الخلافات الداخلية العراقية فإن استبعاد الحشد الشعبي عن المشاركة في تحريرها سيكون وارداً. موقف تركيا من هذا التطور في حال حصوله يعبّر عن أهداف أنقرة. إذ هي تحاول ألا تصبح الموصل جزءاً من إقليم كردستان، وألا تكون خاضعة مباشرة لحكومة بغداد. وبالتالي فإن عين تركيا ألا تكون الموصل خاضعة لأربيل أو بغداد، وأن تكون جزءاً من فيدرالية عراقية جديدة تجعل الموصل عاصمة لدولة ثالثة ضمن العراق تجمع العناصر السنية. لكن هذا المخطط سيجعل المنطقة الجديدة العربية تحت هيمنة العنصر التركي. وهو ما يتعارض مع التوجهات الجديدة للدول العربية المعارضة للسياسات التركية. وكم كان موقف جامعة الدول العربية معبراً عن هذا المزاج العربي عندما أعلن نبيل العربي أمين عام الجامعة إدانته للتدخل التركي في شمال العراق، داعياً القوات التركية إلى الانسحاب فوراً من العراق. لا شك في أن تركيا فوجئت بردة فعل بغداد وجامعة الدول العربية. وردات الفعل هذه تحصل للمرة الأولى بهذا الشكل التضامني. وفي الواقع فإن هذا مؤشر على بدء مرحلة جديدة تضع حداً للتدخلات التركية في شؤون العراق وسوريا وكل المنطقة العربية من ليبيا إلى تونس واليمن ومصر.