يكتسي الحوار العربي - الأوروبي أو الإسلامي - الأوروبي، أهمية تتجاوز نطاق مجرد حوار فضفاض بين الحضارة العربية - الإسلامية؛ والحضارة الغربية، لأن مفهوم الغرب يتميز بالكثير من الغموض والالتباس، ويضم فضاءً متناقضاً من الأفكار والقيم التي يصعب مقابلتها مع الأفكار والقيم العربية والإسلامية، وتحديداً، عندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية التي تتميز نخبها السياسية بجهل كبير لمعطيات ثقافتنا وقيمنا، وذلك على خلاف أوروبا التي تجمعها بالمنطقة العربية قرون من التبادل الفكري والحوار الثقافي في سياق ما أضحى يُعرف بالحضارة المتوسطية. وتعود أهمية إعادة إحياء النقاش المتعلق بهذا الحوار إلى الظرف الاستثنائي الذي تمر به المنطقتان العربية والأوروبية على خلفية الانتشار غير المسبوق لظاهرة الإرهاب العالمي العابر للحدود، التي تفرز في الغالب ردود أفعال متسرعة من طرف قطاع واسع من الرأي العام الأوروبي، تتميز في مجملها بالخلط العشوائي، ما بين الإسلام والإرهاب. ويمكن القول إن شروط الحوار العربي - الإسلامي مع أوروبا، يجب أن يتم تحديدها وضبط عناصرها بشكل مشترك يُفضي إلى ممارسة نوع من النقد الذاتي بين الطرفين، ذلك أن الأوروبيين يتحمّلون جزءاً كبيراً من المسؤولية في الصعوبات التي تواجهها الجاليات المسلمة من أجل الاندماج داخل مجتمعاتها الأوروبية، كما أن المسلمين في أوروبا يتحمّلون جانباً آخر من المسؤولية نتيجة عدم التزامهم بقواعد ما أضحى يُسمى بالإسلام الأوروبي، نظراً لتغلغل الأفكار المتطرفة بين صفوف الشباب المسلم في أوروبا، وعدم احترامه لخصوصية مجتمعه الجديد؛ الأمر الذي يدفع بعض المتطرفين الأوروبيين إلى الادعاء أن الإسلام كدين، لا يمكن أن يُمارس أبداً في سياق مجتمع يميِّز بشكل واضح ولا لبس فيه، بين ما هو ديني وما هو دنيوي، متناسين أن الأغلبية الساحقة من المسلمين استطاعت أن تعيش طوال عقود من الزمن في مجتمعات أوروبية علمانية قادرة على استيعاب التعدد والقبول بالاختلاف. وزيادة على هذا الشق المرتبط بالآخر المختلف والمغاير، فإن المسلمين مطالبون الآن بتغيير أسلوب تعاملهم مع الشريك الأوروبي من خلال تجاوز الخطابات الجوفاء المستندة إلى تمجيد الذات وشيطنة الآخر، والتعسف في الفصل ما بين المنتجات المادية والروحية للحضارة الإنسانية، وكأنهما يمثلان قطبين، لا مجال للالتقاء بينهما. ولا مندوحة من الاعتراف في كل الأحوال، بأن الحوار يجب أن يكون مطلباً عربياً وإسلامياً في المقام الأول؛ لأننا في حاجة ماسة في هذه المرحلة التاريخية الصعبة؛ إلى ما يشبه استراحة المحارب، والعودة إلى الذات من أجل إعادة بناء أنفسنا من الداخل، وصولاً إلى تجاوز أسباب الوهن، والتشتت والفرقة، والعمل في اللحظة نفسها على استئصال الخطاب الديني المتطرف من جذوره. وبخاصة بعد أن بات هذا الخطاب، يشكِّل خطراً داهماً على الإسلام ويسيء بشكل كبير للمسلمين في أوروبا، بل ويوفّر أسباباً وذرائع لمناهضي الإسلام؛ من أجل إقناع المواطنين الأوروبيين بعدم اعتناق هذا الدين، الذي يدّعون أنه يدعو إلى القتل والتدمير. وبالتالي فإننا قد نكون الآن في حاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى فهم أفضل لقواعد التواصل والحوار، وإلى تبني أخلاقيات جديدة للنقاش مع الآخر، من أجل الاستفادة من منجزات العصر وتقليص الفجوة العلمية التي تفصلنا عن أوروبا. ونزعم في هذا السياق؛ أن اللبنة الأساسية التي يجب أن يلتزم بها المسلمون في بنائهم لهذا الحوار الحضاري مع الآخر، تتمثل في بناء وتطوير منظومة فقهية حديثة تراعي خصوصية المجتمعات وتُسهم في ترسيخ قواعد إسلام أوروبي، يدعم ويساعد المسلمين الأوروبيين على الاندماج داخل مجتمعاتهم. ونعتقد أن هذا المسعى لا يتعارض البتة مع قواعد الفقه الإسلامي التي تؤكد على ضرورة أن تحترم الفتوى، الاختلاف الموجود ما بين المجتمعات وأهمية أن يكون المُفتي عارفاً ومستوعباً لعادات وتقاليد وأعراف المجتمع قبل أن يصدر فتواه؛ لأن الفتاوى الشاذة من قبيل تحريم الموسيقى وغيرها؛ من الاجتهادات التي تختار سبيل الإفراط والغلو، لا تأخذ في الحسبان الاعتبارات والخصوصيات المحلية، ومن ثمّ؛ تُسهم في جعل المسلمين يشعرون باغتراب أكبر داخل مجتمعاتهم الأوروبية؛ وقد يدفع ذلك بعض الشباب إلى تبني خيارات قائمة على ممارسة العنف الأعمى ضد كل ما هو مخالف. لابد من الإشارة في السياق نفسه، إلى أن العالم العربي - الإسلامي يمرّ بمرحلة دقيقة من تاريخه تُحتّم عليه أن يبتعد عن الخيارات الجذرية والمتطرفة، لأن التنافس الحضاري الذي يحدث في سياقات تتسم بالقتل وإراقة الدماء، يمكن أن يتحوّل إلى شكل من أشكال حروب الإبادة بين المتنافسين. ويتوجب علينا الإقرار إذن، أننا لسنا مطالبين فقط؛ بالوعي بذواتنا وكينونتنا الحضارية، لكن علينا في اللحظة نفسها أن نُحسِن قراءة التحولات المرتبطة بالزمان والمكان، حتى نصل إلى بلورة استراتيجية أكثر قدرة على تمثل وفهم واقع العالم الجديد بكل تحدياته وتناقضاته. وعلينا أن نعي أيضاً أن الفساد المنتشر داخل المؤسسات والجمعيات الثقافية والدينية الإسلامية في أوروبا، يجعلها تتحوّل إلى ما يشبه الصدَفة أو القوقعة الفارغة، ومن شأن هذه الوضعية غير الصحية، أن تتيح لأصحاب الخطابات المتطرفة، استقطاب وتضليل الشباب الذي يعاني التهميش والبطالة. ونستطيع أن نخلُص بناءً على كل ما تقدم، إلى أن مستقبل الحوار الأوروبي - الإسلامي يعتمد في المقام الأول على انفتاح متبادل بين الطرفين، وعلى القبول بمناقشة كل المواضيع الخلافية بين الجانبين، لأن المواجهة العنيفة لا تخدم أحداً، فقد دلّت التجارب التاريخية أن اللقاء الثقافي بين الحضارتين، مثّل ومازال يمثل مصلحة مشتركة، وبخاصة في زمن التقاء الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية في المشرق والأندلس، وفي زمن انتشار الفلسفة الرشدية ومدرستها العقلانية في كل الجامعات الأوروبية، حيث انتقلت الفلسفة اليونانية إلى أوروبا، بداية، اعتماداً على الترجمات العربية، واستطاع بذلك الحوار الحضاري السلمي أن يقدّم خدمةً متبادلة للطرفين، في زمن كانت فيه المسافات والأمكنة جد متباعدة، فما بالك في زماننا هذا الذي تحوّل فيه العالم إلى ما يشبه القرية الصغيرة. وعليه فإن الوجود الإسلامي في أوروبا، يمكن أن يكون عنصر ثراء حضاري وثقافي بالنسبة للمسلمين والأوروبيين على حد سواء، تماماً مثلما كان الوجود المسيحي في الشرق الإسلامي عنصر ثراء وإبداع في منطقتنا العربية، لأن عنصري التنوع والفسيفسائية يمثلان مصدر قوة بالنسبة للحضارتين؛ التي تقول معطيات التاريخ والجغرافيا أنهما مطالبتان بالالتقاء حول ما يجمعهما من قواسم مشتركة، وأن يعملا على تحويل خانات الاختلاف بينهما إلى مهماز يُسهم في بناء ثقافة التعدد والتنوع والانفتاح التي تفترضها مرحلة العولمة التقنية والنسبية الحضارية التي تفرض قواعدها على الجميع من دون استثناء. hzaoui63@yahoo.fr