ما هو أسوأ من «داعش»، «المناخ» الذي خلقه التنظيم على مستوى الحالة السياسية، فهو ملاذ كل العدميين في العالم تجاه الحالة المتردية التي وصل إليها العالم على المستوى الأمني والسياسي، حيث لا يوجد بلد معصوم من استهداف الإرهابيين الذين ارتفع عندهم سقف المطالبات من مجرد نصرة المضطهدين إلى بناء دولة تكون ملاذًا لكل التنظيمات الصغيرة والمجموعات والخلايا النائمة المنتشرة عبر مواقع مختلفة من العالم. قبل أيام وفي سياق تكريس الدعاية لتنظيم داعش نشر مقطع فيديو لتفاصيل عملية انتحارية في العراق، نفذها الشاب الأردني محمد، نجل النائب الأردني مازن الضلاعين، وذلك في ولاية الأنبار. أبو البراء الأردني شاب أردني متفوق علميًا حصل على الزمالة في الطب ليظهر في الشريط مهددًا للدولة الأردنية. الطبيب الإرهابي درس الطب في أوكرانيا ومنها انضم إلى «داعش» عبر التأثر بخطابهم الإعلامي ومنتجاتهم التي تتضمن محتوى دعائيًا عكسيًا حول تشريع العنف والتغيير بالقوة، واللافت في الأمر أن نقطة التحول في حياة الطبيب هو مقتل ابن قريته الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقًا، هذا الفيديو البشع الذي أثار حفيظة الملايين عبر العالم كان سببًا في التحاق الطبيب بالتنظيم ونصرته رغم درجته العلمية ومستواه الاجتماعي وانتساب والده إلى العمل السياسي الأردني عضوًا في البرلمان الأردني. هل هذه حالة استثنائية في تاريخ التنظيمات الإرهابية المسلحة؟ الجواب: لا، وبحسب دراسة دكتوراه لباحث ألماني في كلية العلوم السياسية في باريس، فإن أغلب رؤوس التطرف والإرهاب من خلفية تخصص علمي كالهندسة، أكثر تخصص ارتبط بالأسماء المتطرفة، في حين أن كثيرًا من المراقبين لملف التطرف يظن أن التعمق في دراسة الدين أو العلوم الشرعية تقود إلى ذلك وهذا غير صحيح، على الأقل في مرحلة تأسس «القاعدة» وأخواتها، حيث كانت الفتوى والشخصيات العلمية كلها قادمة من تنظيمات هجينة مما عرف بالإسلام الحركي أو الصحوي، بينما استقلت المدارس العلمية الكبرى المذهبية والروحانية وحتى السلفية عن سياق «القاعدة» وربطها تاريخيًا بحركة الخوارج في ممانعة من الداخل لم تأخذ حقها من الرصد والمتابعة، فكل تراث كبار علماء الإسلام في محاكمة العنف لم تنتشر بسبب الفجوة الكبيرة بين خطابهم وما يطرح عادة من تسطيح وإجابات سريعة على طريقة الإدانة فقط وليس التحليل والفحص للمقولات والبناء المعرفي للإرهاب. في مقابل الطبيب الأردني، هناك تشفين مالك المرأة الباكستانية التي لم تتجاوز الثلاثين عامًا والمعروفة بذكائها الشديد وثقافتها الواسعة وتخصصها في الصيدلة، حيث وصفها معلموها بأنها طالبة موهوبة ومتفوقة ولا يمكن أن يتصوروا أن تقوم بالمذبحة التي حدثت في كاليفورنيا وتبنت «داعش» الحادثة، في تأكيد على أن تنظيم داعش تحول إلى مظلة كبيرة وكنف لكل الذين يجنحون إلى العنف في فهم العالم وتغييره. تنظيم داعش والمجموعات المنسلة منه أو المحسوبة عليه، الآن تعيش فترة تأسيس لمرحلة جديدة؛ فمع كل ما يقال من خطورة الوضع الحالي لمناطق التوتر: سوريا وليبيا واليمن وسيناء مصر والصومال، إلا أن الأخطر هو وجود خطين متوازيين من العنف المسلح، الأكثر حضورًا على الإعلام وشاشات التلفزة هو الإرهاب العابر للقارات عبر المقاتلين الأجانب، وهم بالمناسبة على عكس ما تكتبه الصحافة الموالية للنظام السوري لا يحظى السعوديون فيهم بقصب السبق، وإن كان أفراد قليلون كالعادة يحتلون مواقع قيادية بارزة لأسباب ذكرتها مرارًا حول «سعودة» التطرف لأهداف مغرضة، لا تعبر عن قراءة الواقع بدقة. الأهم من المقاتلين الطارئين على المكان هو ظهور جماعات مسلحة «إسلامية» النزعة، وليست صادرة عن التنظيمات التقليدية بدأت في التحول إلى تيار اجتماعي، بما تعنيه الكلمة من أسماء وقيادات وخطاب ومساحات شاسعة من الجغرافيا تساعد على بناء ما يشبه «الدولة» داخل الدولة، وهو ما يبدأ منذ زمن في التشكل في اليمن وسيناء والآن في ليبيا، فضلاً عن اكتماله في شمال أفريقيا وقرنها، وهو ما يعني في حال استمرار الوضع التعايش مع فكرة هذا النسيج الاجتماعي المتطرف الذي يتعاظم دوره مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تضخمه وربما تهديده لفكرة الدولة ذاتها. «داعش» صنيعة إهمال شامل.. أسّها غياب الإصلاح الديني، ودعمها وجود حالة فراغ كبيرة على مستوى «المحتوى الشبابي»، إضافة إلى تعقد كل الملفات السياسية في المنطقة وارتباطها بوضعية العنف أكثر من المتغيرات السياسية، وبالتالي النتيجة التي قادت الموهوبين للانضمام إلى التنظيم هو تحول أفكار «داعش» واستراتيجيته العنفية إلى الخيار الأول للمحبطين من الأوضاع المتردية في المنطقة، وإذا وصل الحال بأمة أن ينقاد أذكياؤها وموهوبوها إلى مربع العنف كخيار بديل يعني أننا أمام كارثة محدقة. y.aldayni@asharqalawsat.com