نحن في دولة الإمارات لا نعيش فرحة اليوم الوطني الرابع والأربعين فحسب، بل نعيش فرحة يوم الشهداء أيضاً، فبإصرار وإرادة شعب الإمارات، وبالغاية التي يودون الوصول إليها، حولوا هذا اليوم إلى يوم فرح. بهذه العبارة لخص صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ما عاشته دولة الإمارات العربية المتحدة خلال الأيام الماضية من أفراح، امتزج فيها الاحتفال بيوم الشهيد مع الاحتفال بالذكرى الرابعة والأربعين لقيام دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تثبت عاماً بعد عام. بل يوماً بعد يوم، أنها دولة قامت على أسس ثابتة، وقواعد راسخة، أشار لها سموه حين قال: أريد أن أرسل رسالة للجميع؛ أن هذا الفرح لم يأت من فراغ، بل من أساس قوي جداً، بفضل رحمة رب العالمين، وبفضل الأساس الذي وضعه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، والآباء المؤسسون الأوائل، الذين يستحقون منا ذكر سيرتهم وتضحياتهم، وتضحيات إخوانهم ورفاقهم الذين كانوا معهم. قصة المجد لا يصنعها الخاملون، ولا الضعفاء، ولا العاجزون، وإنما يصنعها العاملون الأقوياء القادرون على قهر الصعاب، وتحويلها إلى تحديات وتجاوزها. وهذا ما فعله الآباء المؤسسون حين التقت إرادتهم قبل أكثر من أربعة عقود، فاتفقوا على تأسيس كيان قوي، يجمعهم في دولة واحدة، تحت علم واحد، يساندهم شعب آمن بأن الوحدة هي السبيل الوحيد لخيره وبقائه، في زمن كانت الأوضاع فيه أقل تعقيداً، لكن رؤية الآباء المؤسسين فيه كانت أكثر وضوحاً، فقد نظروا وقتها إلى ما هو أبعد من الظرف الذي قامت فيه دولة الإمارات، واستشرفوا مستقبل المنطقة في ظل الثروة التي تكمن في أرضها، والتي لاحت تباشيرها قبل قيام الاتحاد. وفي ظل الأطماع التي كانت تحيط بهم، والتي بانت نذرها قبل إعلان قيام دولة الاتحاد، باحتلال إيران لجزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى، وما رافق الاحتلال من استشهاد أول جندي إماراتي يوم 30 نوفمبر 1971 دفاعاً عن تراب الوطن، الأمر الذي أعطى مؤشراً على أن هناك ما هو أبعد من احتلال هذه الجزر الثلاث. وهو التهام المنطقة كلها، وإحياء حلم الدولة الفارسية الذي راود كل حكام فارس على مدى تاريخ دولتهم التي يعيش حكامها الحلم أكثر مما يعيشون الواقع، حتى لو تغيرت الظروف واختلفت الأحوال وتبدلت الحسابات. كيف يمكن لدولة وشعب أن يحولوا مناسبة ارتبطت بالفقد، يراها الكثيرون حزينة عادة، إلى مهرجان فرح وفخر؟ هنا يكمن سر العقد غير المكتوب الذي قامت عليه دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو الثقة المطلقة والمتبادلة بين القيادة والشعب، فحين يثق الشعب أن قيادته تعمل من أجل مصلحته ومصلحة الوطن، وحين تثق القيادة أن الشعب يقف خلفها ويساند أي قرار تتخذه، يصبح اتخاذ القرار مهمة مشتركة بين القيادة والشعب، ويصبح تنفيذه مسؤولية مشتركة، وتصبح نتائجه متقَبّلة لدى الجميع. لذلك لم يكن مستغرباً أن تتلقى أسر الشهداء خبر استشهاد أبنائها بنفوس راضية، وأن تعتبر استشهادهم وسام شرف على صدورها، وأن تؤكد عزمها واستعدادها لتقديم المزيد من أبنائها فداءً لهذا الوطن الذي أعطى بسخاء، ولهذه القيادة التي لم تجد منها إلا الإخلاص والوفاء. كما لم يكن مستغرباً هذا التلاحم الوطني الذي تجلى في أبهى صوره أثناء هذه الأحداث التي يعتبرها البعض أزمات، ونعتبرها نحن في دولة الإمارات فرصة للتعبير عن حبنا لهذا الوطن الذي أعطانا الكثير، وعن ولائنا لهذه القيادة التي حافظت على هذا الوطن، وقادته نحو الاستقرار والأمن اللذين ننعم بهما، وسط هذه المحن التي تعصف بالمنطقة العربية، والتي قوّضت دولاً أكبر من دولة الإمارات مساحة وأكثر سكاناً، وزعزعت أنظمة ذات تجربة عميقة، وهجّرت شعوباً ذات تاريخ وحضارة ممتدة. لذلك فإننا حين نستذكر اليوم سيرة وتضحيات الآباء المؤسسين الأوائل، الذين ذكرهم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في حديثه، فنحن لا نفعل هذا من باب الوفاء والعرفان لهم فقط، وإنما من باب استلهام طريقة التفكير التي انتهجوها وهم يؤسسون هذه الدولة قوية البنيان راسخة الأركان. مستشرفين المستقبل وهم يخططون لدولتهم على أساس سليم، جاهز للتعامل مع كل المستجدات التي يمكن أن تطرأ، واتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح، لأن القرار الصحيح في الوقت الخطأ لا يختلف إطلاقاً عن اتخاذ القرار الخطأ في الوقت الصحيح. شكراً لصُنّاع الفرح... شكراً للآباء المؤسسين الذين مهدوا الطريق، ووضعوا اللبنات الأولى لهذا الصرح الشامخ. شكراً للأبناء الذين ساروا على طريق الآباء، فأعلوا البنيان، وحافظوا عليه، وأبحروا بالسفينة وقادوها إلى بر الأمان. شكراً للشهداء الذي سطروا بدمائهم صفحات سوف تبقى خالدة في تاريخ هذا الوطن، وأضافوا للاحتفال باليوم الوطني زخماً وألقاً. حفظ الله الإمارات قيادة وشعباً وأرضاً، وأدام عليها الفرح والاستقرار والأمان.