×
محافظة المنطقة الشرقية

468.9 مليار ريال حجم الاستثمار الصناعي في «الجبيل الصناعية»

صورة الخبر

إن غياب العقلية العلمية عن العمل الثقافي مُعضلة؛ يُدخله في مُعاناة وغموض وارتباك وشكلانية، ورهين أساليب وصفية، لا يتجاوزها، مُفتقداً للعمق، ولا يساهم مساهمة فعلية في التقدم المعرفي، والنهضة العلمية، وتحقيق الأفضل، والسعادة المرجوة، فضلاً عن دخوله في منافسات سلبية، أو حتى قد تكون مدمرة، تجعل ذهن المثقف، أوالمبدع، مشتتاً، ومُنشغلاً في صراعات، أونزاعات، تُفقده التركيز على العمل الثقافي، محور الاهتمام الطبيعي للمثقف، أو المبدع، فضلاً عن خطورة تحول العمل الثقافي نحو قيامه بأدوار معاكسة، مثل: ترسيخ التخلف، وتعقيد المشكلات، وتمكين الكراهية والبغضاء والتمييز من أن تجرفنا. العقلية العلمية، إنسانية وأخلاقية، هذا هو أصلها، وحقيقتها، وجذورها، وبالتالي يجعلها عادلة وموضوعية ومُنصفة ومنتجة بطريقة سلسة وتراكمية؛ بِلا تشنجات، أو توتر. فالعقلية العلمية من دون المنهج الإنساني والأخلاقي ناقصة. فالمنهج العلمي حين يكون أساس العمل الثقافي فهو مُتضمن للأبعاد الإنسانية والأخلاقية، فهي داخله في أصل التكوين الثقافي، وهذه طبيعة العقلية العلمية، لا تفصل الفحوى الإنسانية والأخلاقية عن العمل الثقافي، وهذا ما يجعلها صمام أمن وأمان المجتمعات، وميكانيزم التقدم والنماء والاستقرار، والقادرة على صنع السلام، لأنها تنحاز له بصورة دائمة، فهو داخل في طبيعتها، أيضاً، فالسلام ليس خياراَ مصلحياً، بل محوراً استراتيجياً، فالعقلية العلمية تتعامل مع الأعمال الثقافية بروح عاشقة، ومُحِبة، ومُشجعة؛ تنتج وتصون وتُطور وتُحسن وتُجَوِّد، وتُسَوِق المنتج الثقافي، وترتقي به، في عملية مهنية إبداعية متصلة ومتكاملة، ومن خلال فرق عمل متعددة ومتنوعة، يجمعها الرابط العلمي، فالعقلية العلمية لها سجيتها، وطبيعتها، وإيمانياتها، غير المُدّعاة، وغير المفبركة، تعكس تركيزها الكامل على العمل الثقافي، وهذا هو الأصل. العقلية العلمية هي الأكثر تأهيلاً، وقدرة، لدراسة المشهد الثقافي؛ وفهم الظاهرة الثقافية في المجتمع؛ ماهيتها، وفحواها، معوقاتها، وصولاً لبحث مسائل مهمة، قد يواجهها أي عمل ثقافي، مثل: عدم الاستقرار الثقافي، الذي معناه انحرافه عن مساره التنويري، التطويري، التنموي، البِنائي، الاستكشافي، الابتكاري، والذي ينتج عنه معاناة المثقف، أو المبدع، وقلقه، واغترابه. المثقفون، أو المبدعون؛ من شُعراء وروائيين وكُتّاب ورسامين وفنانين يستطيعون تجاوز صعوبات العمل الثقافي، التي قد تعترضهم، بما يتحلى به المثقف، أوالمبدع من مزايا: الجرأة والإصرار والشجاعة والصدق والنزاهة والمسؤولية التي تخلق مقاومة إبداعية تنهض بالعمل الثقافي، كماً ونوعاً، في الظروف المواتية وغير المواتية، إِلا أَنَّه ليس كل الوسط الثقافي قادراً على ذلك، أو لديه هذه المزايا التي تُمكنه من التعامل مع الصعوبات المادية والمعنوية التي قد تعترض مسيرة المثقف أو المبدع، فكم من مبدع، أو مثقف، قد غادر الساحة الثقافية، أو قد ترك عمله الثقافي، من شعر وقصة ورواية، وغير ذلك من أنواع الأدب والفنون، رغم إمكانياته وقدراته أن يُعطي أكثر، وأعمق، وأجمل، وأرقى، حين واجهته بيروقراطيات الأعمال، وقضى على إنتاجه الثقافي كفاحه المادي في الحياة، والتنافس السلبي، كما أن انغماس المثقف أو المبدع في سعيه لأجل الرفاهية قد يُنسيه جمال العمل الثقافي وأصالته. وليس المقصود هنا التَّوقُّف الإبداعي، والتأملي، بل التَّوقف القسري أو شبه القسري؛ حين يستسلم المثقف، أو المبدع للعراقيل، وتحدث ظاهرة جُنوحه عن العمل الثقافي، فقط، مثلاً، لقلة الاهتمام بأعماله. كما حدث مع الشاعر السوداني، أبو آمنة حامد، حين صرح، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 1991، عبر حوار معه، عن توقُّفه عَنْ كتابة الشِّعر، وقد أرجع سبب تنحيه عن الشِّعر لقله اهتمام الدولة (يقصد وطنه السودان) بالشِّعر والشعراء، على حَدِّ قوله. العقلية العلمية تستطلع أحوال المثقف، أوالمبدع؛ الشاعر، القاص، الروائي، الرسام، الكاتب، الفنان، لأن العقلية العلمية هي عقلية بحثية في الأصل والممارسة. الشعراء، والروائيون، والرسامون، والكُتّاب، تُشرعُ أعمالهم الثقافية في انْحيازها للتقدم، وتأخذ الأفراد والدول والمجتمعات للأعالي، وتجعل للحياة غايات متوهجة بالفرح الدائم، وتُحْدِث التداعيات المُدهشة؛ ما يعني أن ضعف المثقفين؛ أو المبدعين، سواء كان ضعفاً مادياً أو معنوياً، أو تدهور أحوالهم، تُعدُ أسباباً مؤدية لضعف المجتمع، ذاته، وتدهور أحواله، حيث يغيب الأثر المُلهِم، أو ينزوي، فتغيب عن المجتمع تداعيات جمالية في أَمَسّ الحاجة إليها، وهذا يخلق ضرورة دراسة حالات ضعف وتدهور المجتمعات عبر دراسة حالات ضعف وتدهور أحوال المثقفين، أو المبدعين، واضطرابها، والعكس صحيح؛ تتم دراسة حالات تقدم المجتمعات عبر دراسة حالات تقدم المثقفين، أو المبدعين، واستقرار أحوالهم، وهكذا يكون المثقف، أو المبدع، مدخل الفهم لحال المجتمع، ذاته، فالعلاقة التبادلية والتفاعلية بين المثقف، أو المبدع، والمجتمع، جوهر تقدم. العقلية العلمية هي جواز سفر المثقفين والمبدعين، وهويتهم، فإذا تخلى المثقف، أو المبدع، نفسه، عن هذه العقلية العلمية، أو هو غير مؤمن بها، ولا يعلمها، أو يعلمها ولكن لا يستخدمها، فأعماله الثقافية، قد تخدمه من ناحية مادية أو إعلامية، فقد يحقق عبرها مردوداً مالياً، ومنافع مادية، وانتشاراً إعلامياً؛ ولكن هذه الأعمال لن تنساب، بصورة تلقائية، في سياقات الأدب الإنساني، الأصيل، الوضيء؛ الذي يُسهم في التنوير والتحديث والتطوير والتقدم والبِناء والاكتشاف والابتكار. على سبيل المثال؛ هناك أعمال ثقافية عرفتها أوروبا المعاصرة، في الفترة النازية والفاشية، في كافة مجالات الآداب والفنون، تقريباً، لكنها خدمت الأيديولوجية النازية والفاشية، وانساقت لها، وبررت ممارساتها، وشرعنت، عبر الأدوات الأدبية والفنية وغيرها من أدوات ثقافية وتنظيمية، للتفرقة والانغلاق وعدم المساواة والطبقية والفئوية والفوقية والاستئثار واستصغار الآخرين و وهم البطولة، ومهدت للحروب. هذه الأعمال ليست من الأدب الإنساني، وإن حمل بعضها صفة الأدب والفن والعمل الثقافي؛ فهي لا تخدم قضية الإنسان، ولا تُعدُ من الكفاح الإنساني النبيل لأجل التقدم والحب والمساواة والعدل والحرية والنماء والسعادة وتحقيق الجَمال في كافة مناحي وأفرع الحياة. العقلية العلمية لا تكتفي فقط بإنتاج الأعمال الثقافية، بل تعمل على مدها في الآفاق، فالإنتاج، أو الإبداع، بحد ذاته قد يظل محصوراً في دوائر معينة، غير معروف، أو غير مُستثمر، وغير مُنساب في المجتمع، لا يغادر أروقة المطابع، ورفوف المكتبات، إلا نادراً، أو في حركة تسويقية بطيئة، خجولة، غير محترفة، وتظل الأعمال الثقافية حبيسة المخازن، في جمود، وتجميد، وتحنيط، فكثير من هذه الأعمال مُحنطةٌ، ومجمدة، أكثر مما هي عليه نشطة ومُسوقةٌ، تُعاني من عدم وجود خطة تسويقية واضحة المعالم تحملها للعالم الخارجي، وللآفاق من حولنا، وبلا حراكية ثقافية مكثفة وعميقة تجعل من هذه الأعمال الإبداعية، محاور لقاءات ومؤتمرات ومناقشات وأبحاث مستفيضة، وتخصصية. العقلية العلمية تدرس مسألة تأثيرات الإعلام المعاصر على العمل الثقافي، والعلاقة التفاعلية بينهما. الإعلام المحلي، والإقليمي، والعالمي له تأثيرات على العمل الثقافي، سلباً أو إيجاباً، كما أن العمل الثقافي يتأثر بهذا الإعلام، سلباً أو إيجاباً. كذلك البيروقراطيات الإعلامية لها تأثير على العمل الثقافي، والمثقف، أو المبدع، تحديداً، فلا يمكن فصل المثقف، أو المبدع، أو فصل المشهد الثقافي عن العملية الإعلامية، بمكوناتها. في هذا الجانب، يتم بحث مدى اتخاذ الإعلام مساراً تنويرياً، تطويرياً، تنموياً، بنائياً، استكشافياً، ابتكارياً، فيما يتعلق بالأعمال الثقافية، ويتم كذلك بحث كيفية تعامل هذا الإعلام مع المثقف والمبدع في المجتمع؛ كيف ينظر إليه؟ كيف يرسم صورته ونمطه؟ وبحث كيفية تعامل وتفاعل الإعلام مع مُنتجات هذا المثقف والمبدع من شِعر وقصة ورواية ورسم ومقالة وفيلم وغير ذلك من مُنتجات وأعمال ثقافية؛ ماذا تشكل بالنسبة له؟ ماذا تشكل بالنسبة للمجتمع؟ بمعنى؛ ماذا تُشكل للإعلام والمجتمع هذه الأعمال الشِعرية والقصصية والروائية والفنية؟ وكيف أبرزها الإعلام؟ وهل استفاد منها المجتمع؟ أم ظلت بعيدة عن فضاءات الاستفادة العملية، بمعنى أن المجتمع قد لا يشعر بها، فاقداً لأهميتها، مفتقداً لتذوقها، أو ليست لديه أدوات فهمها على الوجه الصحيح، أو الاستفادة منها على الوجه الأكمل. كما يتم بحث مسألة تعامل وتفاعل الإعلام مع الأعمال الثقافية من حيث هل هو تعامل وتفاعل وقتي، أم هو تعامل وتفاعل مستمر؟ هل هو شكلي؛ أم عميق، بحيث يتخذ مساراً تحليلياً بشكل دائم؟ العقلية العلمية ممارسة جمالية في الحياة، بصورة عامة، وفي العمل الثقافي، بصورة خاصة. د. منصور جاسم الشامسي dr.mansour.research@gmail.com