في خضم سيل المؤشرات التي تشير إلى إمكانية عودة أجواء الحرب الباردة بين معسكر صاعد تتزعمه روسيا، وإلى حد ما الصين من جانب، وآخر غربي تقوده الولايات المتحدة بمشاركة حلفائها الأوروبيين من جانب آخر، طفت أزمة الديون اليونانية المشتعلة حاليا على السطح بوصفها أحد أبرز العوامل المؤججة لانبعاث تلك الحرب. إضعاف أوروبا رغم موافقة مختلف أطرافها على خطة الإنقاذ الثالثة التي اعتمدها الأوروبيون قبل أيام قلائل لتسويتها، تعد أزمة اليونان بمثابة الحلقة الثانية في مسلسل الصدام الروسي الغربي على المسرح الأوروبي في أعقاب الأزمة الأوكرانية التي اندلعت العام الماضي. فلقد سلطت الأزمة اليونانية بجلاء الضوء على فجوة الثقة المتفاقمة بين اليونان وشركائها الأوروبيين إلى مستوى لا يخلو من احتمالات جنوح أثينا للخروج من نظام العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأمر الذي سيتمخض حالة حدوثه -حسب خبراء غربيين- عن تأثيرات كارثية على مستقبل المشروع الإندماجي الأوروبي برمته. " رغم موافقة مختلف أطرافها على خطة الإنقاذ الثالثة التي اعتمدها الأوروبيون قبل أيام قلائل لتسويتها، تعد أزمة اليونان بمثابة الحلقة الثانية في مسلسل الصدام الروسي الغربي على المسرح الأوروبي في أعقاب الأزمة الأوكرانية التي اندلعت العام الماضي " فعديدة هي الخسائر التي يتوقع لأوروبا أن تتكبدها في حال إصرار اليونان على الاتجاه صوب موسكو ومواصلة التهديد بفك الارتباط مع المنظومة الغربية، ما دامت الطروحات الإصلاحية الأوروبية المجحفة باقية،واستمر تخلي الشركاء الأوروبيين عن أثينا في محنتها. إذ يبدو من غير المستبعد أن يفتر حماس اليونان في مناهضة الهجرة غير الشرعية المتنامية إلى أوروبا عبر جزرها ببحر إيجه. ومع تفاقم التوترات في منطقة شرق البحر المتوسط جراء الأزمة السورية، والصراع العربي-الإسرائيلي، واستمرار انقسام الجزيرة القبرصية، وتعقد اتفاقات تقاسم حقول الغاز البحرية؛ ربما لا تتردد اليونان في اللجوء إلى روسيا طلبا للعون مقابل استخدام أثينا حق النقض (الفيتو) داخل الاتحاد الأوروبي للاعتراض على تمديد العقوبات على موسكو، بل قد تعرض على روسيا تسهيلات بحرية في المياه والمرافئ اليونانية كتلك التي سبق ومنحتها للولايات المتحدة. ومما يفاقم خطورة تلك التداعيات المحتملة، أنها تتزامن مع ارتباك العمل الأوروبي المشترك بعدما حملت أزمة منطقة اليورو الأوروبيين على اتخاذ قرارات وتبني سياسات تجاه بعض القضايا، كان من شأنها إرباك "القوة الناعمة" للنموذج الأوروبي وإضعاف الموقف التفاوضي للاتحاد الأوروبي في فعاليات دولية عديدة، كمفاوضات التجارة العالمية والتغير المناخي، لا سيما أن الأوروبيين يواجهون أربع أزمات كبرى تهدد بتقهقر مشروع الوحدة الأوروبية الطموح للوراء عشرات السنين، تتمثل في: أزمات الديون اليونانية، وأزمة أوكرانيا، والهجرة غيرالنظامية عبر المتوسط، ثم محاولات بريطانيا إعادة صوغ علاقاتها مع أوروبا. ومن الواضح أن تلك المحاولات البريطانية تصب في مصلحة موسكو التي تناصب لندن العداء منذ الحرب الباردة، كونها أخلص حلفاء واشنطن، حيث تتطلع موسكو إلى أن يفضي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى إضعاف الجبهة الأوروبية المطالبة برد حازم على السياسات الروسية إزاء أوكرانيا وجورجيا، وهو ما من شأنه أن يقوي موقف بوتين التفاوضي في التعامل مع ألمانيا التي قادت الدبلوماسية الأوروبية الساعية لإعادة فرض سيطرة أوكرانيا على كامل أراضيها. تغلغل روسي فتحت الأزمة اليونانية الأبواب على مصاريعها أمام تقارب لافت في العلاقات بين اليونان من جانب وكل من الصين وروسيا على الجانب الآخر. ورغم أن الناطق باسم الحكومة اليونانية غابريل ساكيلاريديس أكد أن علاقة بلاده بالاتحاد الأوروبي غير قابلة للتفاوض، مستبعدا أية نوايا لتغيير التوجه الأوروبي لبلاده، ورغم أن واشنطن والاتحاد الأوروبي يعتقدان أن إمكانات روسيا الاقتصادية لا تسمح لها بتقديم دعم حقيقي لليونان في أزمتها الراهنة، فإن تصريحات روسية مثيرة توالت بهذا الخصوص واكبتها تحركات عملية على طريق التقارب الروسي اليوناني في الآونة الأخيرة، قد أثارت جدلا واسعا بهذا الصدد. فبغض النظر عن أطروحة صاموئيل هنتنغتون الثيولوجية المثيرة للجدل حول "صراع الحضارات"، والتي تضع اليونان في عداد المحور الأرثوذكسي بقيادة روسيا والمناهض للغرب بتكوينه الكاثوليكي البروتستانتي اليهودي، يأتي التقارب الروسي اليوناني على خلفية أزمة اليونان المالية ضمن سياقات سياسية واقتصادية شتى، أبرزها: - التوجه اليساري للحكومة اليونانية الحالية، فقد ساعد اعتلاء شخصية يسارية مثل أليكسيس تسيبراس زعيم الحزب اليساري "سيريزا" لرئاسة الوزراء في اليونان على تمهيد السبيل لتقارب يوناني روسي تجلت أبرز معالمه في اتفاقية أنابيب النفط والغاز التي ستعطي اليونان امتيازات جمة في إطار تجارة الترانزيت العالمية. وبينما تصرّ حكومة تسيبراس على رفض التعهد بتأدية القروض في موعدها المحدد أو الحصول على قروض جديدة بشروط مجحفة، كان الأوروبيون والأميركيون يتطلعون إلى إسقاط تلك الحكومة اليسارية والتخلص منها، غير أن نتائج الاستفتاء اليوناني الأخير على خطة الإصلاح الغربية قد خيبت آمالهم وعززت شعبية تسيبراس. " عديدة هي الخسائر التي يتوقع أن تتكبدها أوروبا في حال إصرار اليونان على الاتجاه صوب موسكو ومواصلة التهديد بفك الارتباط مع المنظومة الغربية، ما دامت الطروحات الإصلاحية الأوروبية المجحفة باقية، واستمر تخلي الشركاء الأوروبيين عن أثينا في محنتها " وفي معترك توتر العلاقة بين أثينا ومنطقة اليورو على خلفية تباين وجهات النظر حول حزمة الإنقاذ المبرمة بين اليونان والدائنين الدوليين، جاءت زيارة وزير الخارجية اليوناني إلى موسكو ومن بعده رئيس الوزراء تسيبراس للمرة الثانية بعد زيارته الأولى التي قام بها في مايو/أيار الماضي، ثم توقيعه اتفاقية مشروع أنبوب الغاز "تركيش ستريم". وفي السياق ذاته، جاءت التصريحات المتعددة التي أطلقها تسيبراس حول عدم جدوى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بجريرة الأزمة الأوكرانية، داعيا إلى إعادة العلاقات مع موسكو إلى سابق عهدها بغية تجنيب أوروبا والنظام الدولي قاطبة مخاطر جمة. - الدعم المالي: ورغم تشكيك الغرب في قدرة روسيا على دعم اليونان ماليا خلال أزمتها الراهنة بسبب ارتباك الأوضاع الاقتصادية الروسية بسبب العقوبات الغربية وتراجع أسعار النفط، أكد نيكوس كونتيس نائب وزير الخارجية اليوناني، المسؤول عن ملف الشؤون الأوروبية، أن روسيا والصين عرضتا على بلاده دعما اقتصاديا يتضمن مساعدات وفرصا استثمارية، وأن أثينا ستوقع مع روسيا اتفاقا لمد مشروع أنبوب الغاز "تركيش ستريم" إلى اليونان، يشمل دفع رسوم العبور مسبقا، كما ستحصل اليونان من روسيا على سلفة قد تصل إلى خمسة مليارات دولار تسددها أثينا من العائدات المستقبلية لعبور الغاز الروسي أراضيها إلى أوروبا. وبينما دعت بكين رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس لزيارتها، أجرى وزير الخارجية اليوناني نيكولاس كوتزياس محادثات مع نظيره الروسي سيرجي لافروف، الذي ذكر في مؤتمر صحفي مع نظيره اليوناني بموسكو، أن بلاده ستدرس أي طلب لمعونات مالية إذا تقدمت به أثينا، هذا في الوقت الذي صرح فيه وزير الدفاع اليوناني بانوس كامينوس بأنه إذا فشلت أثينا في التوصل لاتفاق مع أوروبا فقد تطلب المساعدة من جهات أخرى مثل روسيا والصين. وبالتوازي، استثنت موسكو اليونان من قائمة الدول المعاقبة اقتصاديا، حيث كشف كل من بوتين وتسيبراس عن آليات ستتخذ لرفع الحظر الروسي على استيراد السلع اليونانية. -أمن الطاقة: حيث حرصت موسكو على استغلال مزيتها النسبية في مجال الطاقة وقامت بمغازلة اليونانيين عبر تخفيض سعر توريد الغاز الروسي لأثينا بنسبة ١٥%. وبينما كان الوقت ينفد أمام أثينا للتوصل إلى اتفاق مع الدائنين على إجراء إصلاحات للاقتصاد اليوناني مقابل الحصول على مساعدات، وتوخيا منها لمد خط أنابيب الغاز الروسي إلى تركيا لنقل الغاز إلى أوروبا دون المرور بالأراضي الأوكرانية ردا على إطاحة متظاهرين أوكرانيين بالرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش في العام الماضي، تجاهلت موسكو المعارضة الأوروبية، ووقعت مع أثينا إبان زيارة رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس الأخيرة لمدينة سان بطرسبرج الروسية مذكرة تفاهم بخصوص مد خط أنابيب الغاز "تركيش ستريم" إلى أوروبا عبر الأراضي اليونانية دون المرور بأراضي أوكرانيا. وفيما أعلن وزير الطاقة الروسي أن شركة "غازبروم" الروسية الحكومية لإنتاج الغاز لن تملك الجزء الممتد عبر الأراضي اليونانية من خط الأنابيب حيث ستتقاسم روسيا واليونان ملكية خط الأنابيب مناصفة، وأن تمويل المشروع سيكون روسيا صرفا، إذ سيأتي من بنك التنمية الحكومي فنيشيكونومبنك (في.أي.بي) أو بنوك روسية أخرى، كما سيقسم خط الأنابيب "تركيش ستريم" إلى أربعة خطوط بطاقة إجمالية قدرها 63 مليار متر مكعب سنويا، أكد وزير الطاقة اليوناني باناجيوتيس لافازانيس -خلال مراسم التوقيع- أن اليونان تحتاج إلى هذا الدعم الروسي لا الضغط الغربي عليها خلال أزمة ديونها، مشددا على أن التعاون مع روسيا ليس موجها ضد أي طرف. قلق أميركي بقلق بالغ يتابع الأميركيون تطورات أزمة الديون اليونانية، فطالما ناشد الرئيس أوباما الأوروبيين بتفهم أكبر لمطالب اليونان، ودعاهم إبان قمة السبع الكبار الأخيرة بألمانيا إلى ضرورة احتضان أثينا وإبقائها ضمن المنظومة الأوروبية. وفي خضم الضغوط التي دأب على ممارستها الاتحاد الأوروبي على اليونان بغية إخضاعها لشروطه المالية الإصلاحية، عكفت واشنطن على التحذير من انزلاق هذا البلد في براثن موسكو، حيث يرى البيت الأبيض أنه سينتج عنه لاحقا اقتراب اليونان أكثر من الصين، خاصة أن بحوزة الأخيرة احتياطيات مالية ضخمة تخولها مساعدة اليونان في الوقت الراهن، وبشروط لينة للغاية مقارنة بتلك التي يعرضها كل من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. " سواء تسنى لخطة الإصلاح الأوروبية الثالثة التي يراهن عليها كثيرون حاليا إنقاذ اليونان من عثرتها أم لا، ستبقى الهواجس الأميركية والأوروبية قائمة من إمكانية تحول بعض البؤر داخل المعسكر الغربي إلى قنابل موقوتة أو بؤر محتملة ضمن الحرب الباردة الجديدة مع روسيا " ويستبد بالأميركيين هلع من وجود حكومة يسارية لحزب سياسي يساري راديكالي كحزب "سيريزا" على رأس السلطة في اليونان، إذ قد لا يتردد في اتخاذ إجراءات وقرارات مثيرة وتبني حلول غير تقليدية للخروج من الأزمة. فمن منظور إيديولوجي بحت، تتأسس سياسات الحكومة الحالية على مزيج من مشاعر الخوف من الأجانب، وحرب الطبقات، والقومية المتعصبة والمدينة الفاضلة. كما لا يخلو خطابها القومي والاشتراكي من رواسب لتصورات معادية للاستعمار الجديد والإمبريالية الغربية. وبينما تدين اليونان في قيامها كدولة خلال المؤتمر الإغريقي بلندن عام 1932 المخططات الأوروبية في مواجهة الإمبراطورية العثمانية، تتوق اليونان اليوم في ظل حكومة تسيبراس اليسارية إلى الاعتزاز بهويتها وتأكيد ذاتها كمقررة لمصيرها رافضة أن تكون مخلب قط لإمبراطوريات أوروبا ضد العثمانيين الجدد أو عنصرا زائدا أو عضوا وظيفيا في الاتحاد الأوروبي الذي تقوده ألمانيا المعروفة بتشددها ضد أثينا. ولا يستبعد الأميركيون وجود نزعات انتقامية لدى اليونانيين تجاه الغرب لتجاهله بلادهم والاستعلاء عليها في وقت الأزمة، حيث تعتقد الحكومة اليونانية الحالية أن الأوروبيين ينظرون إلى بلادها كفرصة استثمارية وليس كشريك إستراتيجي، الأمر الذي أدى إلى انهيار العديد من المؤسسات اليونانية الصغيرة والمتوسطة التي تشكل عصب الاقتصاد اليوناني، إضافة إلى إضعاف قدرة الدولة اليونانية وفاعليتها. كما أدت مقترحات الأوروبيين الإصلاحية المجحفة وتصريحات السياسيين الأوروبيين التي تشكك في قدرة اليونان على تجاوز أزمتها، إلى زيادة التوتر الداخلي وتفاقم تعقيد الأزمة وخلق مناخ داخلي عدائي للخطط والطروحات الأوروبية، الأمر الذي قاد في نهاية المطاف إلى هجرة الكفاءات والشركات الأجنبية واليونانية إلى أستراليا ودول أوروبية أخرى، كان نصيب ألمانيا وحدها خلال فترة وجيزة أكثر من ٢٣ ألف عنصر من تلك الكفاءات البشرية. وسواء تسنى لخطة الإصلاح الأوروبية الثالثة التي يراهن عليها كثيرون حاليا إنقاذ اليونان من عثرتها أم لا، ستبقى الهواجس الأميركية والأوروبية قائمة من إمكانية تحول بعض البؤر داخل المعسكر الغربي إلى قنابل موقوتة أو بؤر محتملة ضمن الحرب الباردة الجديدة مع روسيا. هذا في وقت لا تتورع فيه بعض الدول الواقعة ضمن جبهات المواجهة المحتملة كاليونان وإيران عن الاستقواء بالدب الروسي الطامح إلى دور عالمي في مواجهة الغطرسة الأميركية والأوروبية التي تأبى إلا استتباع الحكومات وإذلال الشعوب من أجل إبقاء الهيمنة الأميركية المدعومة أوروبيا على عالم ما برح يبحث عن شركاء جدد في إدارة نظامه الجديد الذي لا يزال قيد التشكل.