في أعقاب تفجيرات باريس، دارت حالات مثالية من حوار طويل وساخن ومتعقل ومتكرر بين علماء دوليين من الذين درج المجتمع الغربي على وصفهم بأنهم المثقفون البارزون غربيو التوجه، وكان هذا أمرا طبيعيا ومتوقعا وصحيا. من هذه الآلاف المؤلفة من الحوارات نقف عند سؤال مهم لا يطلقه ولا يسأله إلا صادقو النية من المثقفين الغربيين والمثقفين المنصفين غربيي التوجه وهم أغلبية كاسحة. ويقول هذا السؤال بكل وضوح: لماذا ندفع كغربيين بالتطورات الفكرية الشرقية على مستوى البسطاء إلى توجه يقود كثيرا إلى مثل هذه النتيجة الاندفاعية (أو القريبة من الحماقة) المعبرة عن نوبة من نوبات الصرع المرتبط بالصراخ بصوت عال و"مدمى" أي الملفوف بالدم، وليس داميا فحسب. ومهما كان من براءتنا كغربيين من المسؤولية المباشرة وغير المباشرة عن تطورات الأحداث السياسية على الأرض، فلماذا نجد أنفسنا ننسحب من علاج حالة محددة إلى تصور ضرورة افتراض وجود الوباء، والانتقال مباشرة إلى ضرورة مجابهته على نطاق واسع، وهي فرضية بعيدة عن الصواب، وجالبة لما لا ينبغي أن يوجد (أو أن يحدث) مع طول المدة من فتور الهمة في العلاج والوقاية على حد سواء؟ " مع أن الأتاتوركية لم تكن إبداعا غربيا كاملا ولا صناعة غربية كاملة فإن الإمبرياليين الغربيين لا يرون (في قرارة أنفسهم) مذهبا أنسب منها للمجتمعات الإسلامية المتعاملة معهم أو التي لابد لها من التعامل معهم، سواء أكانت مصدرة للخام أو مستوردة للسلاح " اشتركت بالطبع في كثير من هذه الحوارات بعقل بارد، وعاطفة مقيدة بالاتزان والرؤية العلمية و"المادية" التي لا تخلو من أفق التاريخ والتصور على حد سواء، وكنت وما أزال أقول إن موطن الخطر في العلاقات الغربية الإسلامية يكمن في توق بعض الإمبرياليين الغربيين إلى تكرار التجربة الأتاتوركية بطريقة نمطية. ومع أن الأتاتوركية لم تكن إبداعا غربيا كاملا ولا صناعة غربية كاملة فإن الإمبرياليين الغربيين لا يرون (في قرارة أنفسهم) مذهبا أنسب منها للمجتمعات الإسلامية المتعاملة معهم أو التي لابد لها من التعامل معهم، سواء أكانت مصدرة للخام أو مستوردة للسلاح، وهم لا يزالون يعتقدون في هذا الطرح حتى لو لم توافق كل من أغلبية ونخب هذه الشعوب على اعتماد الأتاتوركية أو قبولها كبديل؛ وحتى لو أعلنت وسائط الثقافة لهم عن رفضها أو رفض جوهرها من قبل جموع الإصلاحيين الموالين لأوروبا وأميركا والمدعومين منها. ومن الطريف أن بعض هؤلاء "الأصدقاء" المحليين الذين قدموا أنفسهم لأجهزة الاستخبارات الأميركية والغربية على أنهم يريدون نقل التجربة الكمالية بحذافيرها كانوا سرعان ما يحصلون على الموافقة على بعض الاستثناءات في إرجاء تطبيق بعض أركان الأتاتوركية التي تبدو لهم وللغربيين شكلية لكنها في حقيقتها تمثل اللب الجوهري للأتاتوركية. وعلى سبيل المثال السريع جدا فإن الانقلابيين العسكريين العرب (قبل عبد الناصر وبعده) لم يتصوروا أن بإمكانهم ولا في مصلحتهم أن ينسلخوا من الحروف العربية والكتابة العربية وكان هذا انعكاسا صادقا وأمينا وصائبا لإيمانهم باستحالة توطين تعليم اللاتينية في مجتمعات لن يعنوا فيها أصلا بأي درجة من درجات التعليم أو نشره أو تطويره أو تجويده، وهكذا فقدت التجارب العربية المقلدة للكمالية جوهرا مهما من الذاتية المحورة أو المشوهة الكفيلة بتعميق التغريب الجالب للرضا الغربي العميق. ومع هذا فإن الغرب بمؤسساته (المخابراتية والبحثية) على حد سواء تعايش بدرجة كبيرة من غض الطرف مع دكتاتوريات ثقيلة في العالم الإسلاميمقابل ما كانت هذه الدكتاتوريات تتيحه له من مصالحه الإستراتيجية، وما كانت ترسخه من مستهدفات تتوافق مع هذه الإستراتيجيات التي تتمنى بعض القوى الفاعلة في أميركا وأوروبا انتعاشا لها في أرض العالم الإسلامي، ومن هذه الإستراتيجيات: النجاح في إنفاذ تطويرات استغرابية من قبيل إلغاء القضاء الشرعي، وتوهين التعليم الإسلامي، وتشويه الفنون الشعبية الحقيقية، وتغييب كل ما هو ممكن من الطوابع القومية في الثقافات المحلية. " تعايش الغرب بدرجة كبيرة من غض الطرف مع دكتاتوريات ثقيلة في العالم الإسلامي مقابل ما كانت هذه الدكتاتوريات تتيحه له من مصالحه الإستراتيجية، وما كانت ترسخه من مستهدفات تتوافق مع هذه الإستراتيجيات التي تتمنى القوى الغربية انتعاشا لها في أرض العالم الإسلامي " ومع أن التبادل الثقافي بمعناه الحقيقي كان غائبا تماما عن الحياة السياسية والعلاقات الثنائية فإن البارقات الغربية الرسمية المشجعة لكل ما هو احتذائي ومقلد كانت تتفوق على أي اهتمام جزئي بما هو أصيل، وذلك في مقابل ما عرف أيضا من اهتمام علمي معقول بالأصالة والإقليمية دأبت عليه ونجحت فيه المدارس الكلاسيكية والمعاهد البحثية العلمية الغربية في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا والدول الإسكندنافية، وامتد النجاح إلى أكاديميات في اليابان والمكسيك، ونجحت فيه فرنسا وإسبانيا بدرجة أقل مما كان متوقعا. لكن الإستراتيجيات الغربية شهدت أشد مراحل التردد والحيرة ثم "الاحتيار" وتناقض الاختيار في السنوات الأربعين الأخيرة التي بدأت بحرب أكتوبر وما واكبها من طفرة عربية تحققت بارتفاع أسعار النفط، وتوظيف عوائده، وتطور الإحساس بالذات إلى مرحلة الحرب ثم إعادة الحرب في كل من أفغانستان والخليج. وقسوة الممارسات العسكرية الأميركية غير المبررة، وما أعقب كل هذا من تطور آليات وفعاليات العمل السري النظامي وغير النظامي! وبدلا من أن تلجأ السياسات الغربية إلى مؤسسة الثقافة تستلهم منها آفاقا للبدائل في المستقبل أو حلولا من الماضي فقد كانت السياسة في تجلياتها المعاصرة القاسية قد وصلت من السطوة المعنوية والبيروقراطية إلى الحد الذي جعلها تستدعي الثقافة لتجبرها على أن تقدم المحتوى الثقافي خاضعا تماما لنظرة سياسية مستقبلية قاصرة، سواء أتاها القصور من العجز عن التصور المحيطي، أو جاءها هذا القصور من استسهال الخضوع لنظريات صاغتها الأساطير بكل ما شاب الأساطير من التحويرات المعهودة في الرواية والنقل والتوصيل والصياغة والتعبير والطرح والاستجابة. وليس من قبيل المبالغة أن أقرر بكل وضوح أن أساطير من قبيل معركة هرمجدون وأخواتها قد أصبحت تمثل الآن اللب الجوهري لكل الإستراتيجيات الأميركية التي وضعت نصب عينيها استئصال شأفة الفكرة الإسلامية، والحيلولة دون وجود دولة إسلامية، مهما صغر حجمها وضعف تأثيرها المباشر، استنادا إلى تفادي خطورة مؤكدة ستحقق بمجرد الوجود الرمزي! ومن إحقاق الحق القول إنه لا يمكن لأي مشخص أن يصف مثل هذا التفكير إلا بأنه حالة مستعصية من المرض العصابي المزمن والمعقد. وهو ما يعني أن مثل هذه الحالة تتطلب بالإضافة إلى العلاج تصميم إستراتيجيات سابقة ولاحقة من التأهيل النفسي والثقافي المكثف، وهو تأهيل يستلزم زيارات ميدانية أقرب ما تكون إلى رحلات السفاري الأفريقية التي تستكشف بدقة وتفصيل ما لا يزال يصور على أنه المجهول. على أن هذا كله لا يمثل إلا استعدادات وترتيبات محطة السفر بينما الأهم من هذه الترتيبات هو نظيراتها المتعلقة بمحطة الوصول، وهي ترتيبات تقتضي من سعة الأفق مساحات واسعة من القبول بالاختلاف، وفهم الاختلاف، والإفادة من الاختلاف، والحيلولة بين هذا الاختلاف وبين مضيه في مسار الخلاف المستحكم، وتأسيسه لعلاقات تتكئ على الاختلاف من أجل تكرار الحروب التي لا لزوم لها على نحو ما حدث في كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق. " لما جاء عبد الناصر ومن معه، عرضت عليهم الأتاتوركية فأعادوا توظيفها بكل مشكلاتها وعيوبها، غير عابئين بما انتهت إليها من نكسة، ثم تكرر هذا الاستعمال لهذه المنظومة كلما جاء فريق من الطغاة الفشلة الذين يريدون أن يرضوا الغرب ليجدوا منهم تغاضيا عن جلدهم لأبناء جلدتهم من الإنسانية المعذبة " وإذا كان هناك قاسم مشترك يلخص أهم الدوافع المتكررة والمشتركة في كل هذه النزاعات والحروب التي استدعتها فرضيات القرارات الخاطئة والتصورات القافزة فإن الأمر لا يتعدى ذلك النموذج المشوه الذي زينته الأدبيات الغربية والوسائط الإعلامية الأميركية على أمل منها جميعا أن يكون بمثابة النموذج المقنع للمسلمين ولغير المسلمين ممن يعتزون بهوياتهم، لكن هذا التحريض الغربي على تحبيذ الأتاتوركية سرعان ما فشل حيث كان يراد له أن ينجح (أي في تركيا نفسها) ونجح حيث لا قيمة لنجاحه (في معامل الغرب). ولا تزال معادلة الأتاتوركية تمثل أفضل أداة قياس لفرضية نجاح السياسة الغربية في التعامل مع مجتمعات غير غربية، فكلما كان اعتماد هذه السياسات لفرضية نجاح الأتاتوركية كبيرا كانت فرصتها في الفشل أكبر، والعكس صحيح تماما. لكن العجيب في الأمر أن الأتاتوركية التي كانت قد لفظت أنفاسها وخرجت من الخدمة في تركيا نفسها في مطلع الخمسينيات بقيت في مخازن "الكهنة والرواكد" تحت رعاية كهنة مفلسين تخصصوا في الرواكد، فلما جاء عبد الناصر ومن معه ووجدوا أنفسهم أقل من أن يكونوا رأسماليين أو اشتراكيين عرضت عليهم الأتاتوركية فأعادوا توظيفها بكل مشكلاتها وعيوبها، غير عابئين بما انتهت إليها من نكسة، ثم تكرر هذا الاستعمال لهذه المنظومة كلما جاء فريق من الطغاة الفشلة الذين يريدون أن يرضوا الغرب ليجدوا منهم تغاضيا عن جلدهم لأبناء جلدتهم من الإنسانية المعذبة. وهكذا تحولت الأتاتوركية من تجربة تاريخية إلى ظاهرة مرضية تنتج من حين لآخر تنظيمات يتبدى نشاطها بمثل ما شهدته باريس مؤخرا. ومن المؤسف للغرب المستنير أن تتغاضى عقول كبيرة في حكوماته عما يجري في غرفه المغلقة من موافقات أو تمريرات لا تعبأ بالخطر الكامن رغم قربه منهم، حتى إذا ما وقعت الواقعة تركوا الفرصة لسيدات الصالونات الشرقية المرفهات يتحدثن عن ضرورة تصريف مياه البانيو المسدود بكل وسائل النضح والتفريغ الحديثة والمكلفة، مع المقارنة المستفيضة لتكاليفها وكفايتها، وتكرار الأسلوب مع كل استخدام للبانيو، مع أن الأمر لا يتطلب أكثر من تحريك سدادة البانيو التي ثبتت في وضع خاطئ.