لا نفتأ نقرأ هذه الأيام على نطاق واسع في الإعلام الغربي بعد أحداث باريس الأليمة لكتاب مشهورين يربطون بين ما يعتبرونه «عنفاً إسلامياً» والطابع السياسي العضوي للدين الإسلامي، بما يسمح بالقول إن نموذج «داعش» تجسيد طبيعي للتقليد الديني السياسي الإسلامي! إن مثل هذه المقاربة، فضلا عن زيفها، تخدم استراتيجية التنظيمات المتطرفة في خطابها التعبوي التحريضي، مع أن خلفيتها الأيديولوجية تعود في نهاية المطاف لتيارات الإسلام السياسي التي تتمحور توجهاتها النظرية والسياسية حول فكرة «الدولة الإسلامية». ليس من همنا الرجوع إلى الأدبيات التراثية في المسألة، بما يخرج عن نطاق اهتمامنا الحالي، وإنما سنكتفي بالوقوف عند إشكالية نادراً ما يتم التوقف حولها في الكتابات السيارة الغزيرة حول المسألة الدينية السياسية في الإسلام، وهي تصور الدين نفسه في علاقته بنمط الاجتماع السياسي، وهي إشكالية تختلف عن إشكالية الشرعية التي تستأثر باهتمام الباحثين من منطلق متأثر بالرهانات الحديثة للدولة التي هي رهانات مغايرة للسياق الإسلامي الوسيط. ما نلمسه بوضوح في الدراسات المعاصرة هو التركيز على مفهوم الخلافة؛ إما بالنظر إليها كتعبير عن نموذج الدولة الإسلامية الشرعية أو النظر إليها كمثال طوباوي في مقابل التجربة السياسية الواقعية للمجتمع الإسلامي (عبد الله العروي)، مع العلم أن هذا المفهوم يتداخل فيه معنيان متعارضان: السلطان المطلق في مواجهة الجماعة، أو الإمامة من حيث هي من مقتضيات الشرع ولوازمه. المعنى الأول يحيل إلى التجربة التاريخية للأمة التي اتسمت بصراع طويل وممتد حول تركة النبوة بين نموذج الدولة الحارسة للدين ونموذج الجماعة الوريثة للعصمة النبوية. أما المعنى الثاني فهو الذي شغل المتكلمين في تصورهم للأبعاد الجماعية للاعتقاد بالنسبة لدين ينظر إلى الإيمان بصفته ممارسة عملية أي انخراط طوعي في تقليد مشترك دون اعتناء بتقنين مضمون الوعي الديني الفردي في تفصيلاته. المتكلمون السنّة في مجملهم ذهبوا إلى وجوب نصب الإمام وإن اعتبروا الإمامة من فروع الدين لا أصول الاعتقاد، فهم وإن أكدوا أن أحكام الدين ومصالح الجماعة تقتضي نصب إمام تنعقد له البيعة وتجب له الطاعة، فإنهم لم يعتبروا الإمامة مرادفة للسياسة بمفهومها التدبيري العملي. الكثير من الباحثين ذهبوا إلى أن النموذج التاريخي للاجتماع السياسي عانى من مفارقة معيقة هي الانزياح بين محور الشرعية المرتبط بالمنظور الروحي القيمي للدين الذي يضع سقفاً معيارياً مثالياً لا يمكن تطبيقه في الواقع، ومحور السلطة العينية التي وإن كان ينظر إليها كحاجة حيوية وصورة عملية إلا أنها فاقدة للشرعية الدينية. بيد أنما لم ينتبه إليه الباحثون هو تمايز المستويين: العقدي الذي ينيط الشرعية الوحيدة الممكنة بالملكوت الإلهي الذي هو مجال التحكم المطلق، بيد أنها حاكمية وجودية وقدرية لا يمكن تجسيدها بموازين السياسة والحكم، والسياسي المجتمعي الذي يدار بمنطق الغلبة والقوة والعنف والأساس فيه هو حفظ الأمن ودفع العدو مع ضمان العدالة بمعنى إعطاء كل ذي حق حقه. ولذا لا يتعلق الأمر بانفصام في الوعي والتجربة التاريخية، بل بطبيعة الدين في الإسلام الذي يختلف في الجوهر عن المنظور اللاهوتي المسيحي باعتبار أن اللاهوت المسيحي في الوقت الذي كرس التجربة الفردية للتدين (بدون نظام قانوني أو سياسي) اشتغل بآليات تدبير الوعي وتقنين مضامينه ومسالك الاهتمام بالذات، وهي الأدوات التي ستتحول مع عصور الحداثة من حقل المؤسسة الدينية إلى حقل السلطة فتصبح هي مقومات العقل السياسي للدولة الحديثة. فما يبدو طابعاً قانونياً سياسياً في الإسلام ليس من مشمولات الدولة (على عكس الصورة السائدة المتأثرة بالتجربة التاريخية للدولة الحديثة التي هي دولة قانونية معيارية)، بل أن الفقه الذي لا يمكن نعته بأنه قانون بالمعنى الحرفي للعبارة شكّل قوة كابحة لنشوء الدولة التسلطية المتمتعة بسيادة وضع المعايير والقيم الضابطة للشأن الجماعي الكلي. وإذا كان «وائل حلاق» قد نفذ من دراساته المعمقة للفقه الإسلامي إلى أطروحة «الدولة المستحيلة» في الإسلام، فإنه لم ينتبه إلى هذا الانزياح بين العقدي والسياسي في التجربة الإسلامية الذي في الوقت الذي يمنع التجسد الموضوعي للسلطة الإلهية المطلقة، لا يحول دون مختلف تجارب الحكم السياسي التي إن لم تكن لها قداسة الدين فيكفيها قبول الجماعة وانتهاج قيم العدل والمصلحة. *د. السيد ولد أباه* *أكاديمي موريتاني