وصلتُ مكَّة، المدينة التي أتنفَّسها، والتي مهما تركتُها فإنَّها تعيشُ في داخلي.. أمشي المسافة القصيرة بين نقطة التفتيش «الشميسي»، وموقع غرفة مكَّة المكرَّمة للتجارة والصناعة، وأصوات تشنِّف أذني.. وقعها كصدى العملات القديمة «بيت التجَّار بمكّة».. هناك رائحة مكّة تحتويني.. فلمدينتي العتيقة عبق يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالذاكرة، تغيَّرت بعض أشياء هنا، لكن رائحتها وطعمها يظلَّان كالرّوح تخفق فرحة بلقاء المكان وإنسانه، الذي نذر نفسه لخدمة الملايين من ضيوف الرحمن. أصلُ إلى الغرفة التجارية الصناعية.. هنا مبنى، وفَّق اللهُ المشرفين عليه أن يكون معلمًا من معالم مكَّة المكرَّمة؛ كان المضيف الشاب بزيّه المكاويّ يقف عند بوابة الغرفة التجارية يحملُ دورق ماء زمزم في يده، ويطرقُ طرقاتٍ خفيفةً على الكاسات المعدنية؛ ليستقطبَ الدّاخلين إلى المبنى، وينفحهم بحسواتٍ من الماء المبارك. في الداخل، كان منسوبو الغرفة في الناحية الأخرى يصعدون ويهبطون عبر السلالم الكهربائية، والمصاعد التي تنتظم على مداخل المبنى الزجاجي الضخم.. أرنو بطرف بصري حيث الأمل يستريح في قاعات الاجتماعات والتدريب في مبنى يتحوّل طوال اليوم إلى خلية نحل، ففي كل ركن من أركان بيت التجَّار نشاط يحصد ثماره المجتمع المكاويّ. شعور مختلط، سعادة وفرح، فهذا الحصن المعرفي الكبير تحوّل إلى جاذب للعلم والمعرفة، ليترجم شعاره «نحو تنمية مستدامة» إلى أرض الواقع، إلى جانب وظيفته في خدمة قطاع المال والأعمال، فاستحق مسمّى «بيت تجّار مكة»، أستسلم لأحلامي التي تمدَّد كحلم مستطيل، تتسمَّر عيناي على السقف ككاميرا سينمائية تركها مصوّر لتحدق في تلك الإنجازات؛ أستفيقُ على أذان الظهر.. يا الله كم هو جميل صوت الأذان المكاويّ، الوقت بمكّة لا يعادله وقت. أمارسُ السيرَ بمفردي بين ممرّات الغرفة التجارية المكاويّة، أتأمّل البنايات الجديدة، أتوقّف عند غرفة الاجتماعات التي سألتقي داخلها برئيس غرفتها، وأعضائها، وأمينها العام الدكتور عبدالله الشريف، ذلك الشاب الذي يحاول أن يترك بصمة بتوقيع مكاويّ في هذا المكان.. يراودني إحساس جامح للذهاب إلى «بيت والدي»، حيث الماضي الجميل الذي عشته يومًا، أصل «لبيتنا»، تستقبلني نسمة باردة.. أقتنصُ ما بعثره الزّمان.. في صحن بيت العائلة، كان المساء يصبُّ برونق على جدار بيت الأسرة بحنان، ويحاول عبثًا نزعها من عزلتها الدائمة.. أعود إلى جدّة بعد أن آوى المكَّاويون الطيّبون إلى بيوتهم، يخزنون فتات الحب بدفئها الغائر في الزمن، يستعدون ليوم جديد؛ ليرحبوا بضيوفهم «أنستونا ياهو». A.natto@myi2i.com