لا يكاد يخلو يوم من تطوّر لافت يدلّ على ما تحمله الأشهر المتبقية لباراك أوباما في البيت الأبيض لمنطقة الشرق الأوسط من مخاطر. تقارير صحافية موثوق بها تحدّثت قبل أسابيع عن أن «استراتيجية واشنطن في المنطقة تشمل تقاسم سوريا والعراق، بحيث يخضع العراق لواشنطن، وتظل سوريا تحت خيمة موسكو». ولئن كان لبعض المحللين الواقعيين تحفّظ كبير على الشقّ المتعلق بالنفوذ الأميركي في العراق، حيث خلقت إيران - المُطلَقة اليد أميركيًا - وقائع جديدة على الأرض، فيبدو أن تسليم واشنطن مقدّرات سوريا ومصير ما تبقى من شعبها للروس.. غدا حقيقةً واقعة. ثم إن ما يحدث في سوريا، واستطرادًا لبنان، يمسّ مصالح إسرائيل كلاعب إقليمي أساسي مع أنه - كما يظهر – لا مصلحة لأحد راهنًا في الكلام عنه. والأمر الأكيد أن أي صفقة سياسية في سوريا ولبنان يفترض أن يكون لإسرائيل رأي فيها. هذا يعني أننا الآن، في ظل الانقسام العربي، أمام «سيناريو» يضم لاعبين عالميين وازنين هما روسيا من جانب والولايات المتحدة والقوى الغربية الكبرى من جانب آخر، وثلاثة لاعبين إقليميين مؤثرين هم إيران وإسرائيل وتركيا. الاتفاق النووي الأميركي – الإيراني، الذي سقط فعليًا ولم تبق منه سوى آثاره السياسية الكارثية، شكّل أول تطوّر استراتيجي في المنطقة منذ غزو العراق وتسليمه إلى القوى المرتبطة بإيران. وردًا على التحفظ العربي على هذا الاتفاق وتبعاته سعت واشنطن إلى طمأنتهم بتكرارها «لازمة» مُملة أراد البعض أن يصدّقها والبعض الآخر لم ولن يصدقها.. هي أن «واشنطن ستظل ملتزمة بمصالح أصدقائها في المنطقة، وهم تحديدًا، إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي». اللافت، طبعًا كان التركيز الأميركي على إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي والتجاهل الكامل لدول المشرق العربي الأخرى، أي العراق وسوريا ولبنان والأردن. وحقًا، حكمت أولويات الاتفاق النووي الأميركي – الإيراني تعامل واشنطن السلبي تجاه الثورة السورية، إذ اكتفت بالكلام والاستنكار، ثم تقديم الدعم العسكري للانفصاليين الأكراد في شمال سوريا، بينما رفضت أي خطوات عملية لدعم الثورة كتقديم سلاح نوعي وإقامة «ملاذات آمنة» و«مناطق حظر طيران». وفي المقابل، انخرطت روسيا في مساندة التدخّل الميداني الإيراني المباشر. ثم، تحت ذريعة مقاتلة الجماعات «المتطرفة»، أضحت طرفًا مقاتلاً على الأرض يتجاهل «داعش» عمدًا ليركّز بدلاً من ذلك على إنقاذ نظام بشار الأسد وإجهاض الثورة السورية وتمزيق قوى المعارضة، والبدء بعمليات تطهير عرقي وطائفي تستهدف التركمان والعرب السنّة. اليوم روسيا تصعّد حربها السياسية على تركيا بهدف فصلها جغرافيًا ولوجيستيًا عن سوريا، بينما تدعم واشنطن الجماعات الانفصالية الكردية - وبعضها مرتبط بعلاقات مشبوهة مع نظام الأسد – وميليشيا جديدة هي «قوات سوريا الديمقراطية» التي انضمت إلى الأكراد في قتال «داعش» حصرًا ولا تشتبك مع قوات النظام. وهكذا، فإن «المنطقة الكردية» التي تسعى واشنطن لتأسيسها في شمال شرقي سوريا من عين ديوار شرقًا إلى جرابلس غربًا، بحجة ضرب «داعش»، تتكامل مع المساعي الروسية لمنع تركيا من إنشاء «ملاذ آمن» يمتد بين جرابلس شرقًا وغرب مدينة أعزاز يضم كثافة تركمانية وعربية. ومعلومٌ أنه بالنسبة لتركيا من شأن هذا «الملاذ الآمن» التخفيف من وطأة أزمة النازحين، ومنع نشوء كيان كردي انفصالي متكامل على طول الحدود التركية – السورية يشمل غربًا «جيب» عفرين ذا الغالبية الكردية المتاخم لولاية هاتاي التركية (لواء الإسكندرونة). أكثر من هذا، روسيا تعمل الآن صراحةً على تهجير التركمان من شمال سوريا بحجّة أنهم البيئة الحاضنة للنفوذ التركي، وسط اتهامها أنقرة بأنها تدعم «داعش» وتغطي جرائمه. وبعدما كان النظام قد أسهم بتهجير نسبة كبيرة من تركمان سوريا، لا سيما من ضواحي دمشق ومحافظة حمص ومحافظة حلب، ها هي تركيا تعمل على تهجير تركمان محافظة اللاذقية. ولقد استغل هذا التصعيد التركي الجديد لمصلحته ثلاثة أحداث متتالية، هي: تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء، وتفجيرات باريس، وإسقاط تركيا الطائرة الحربية الروسية في المنطقة الحدودية فوق جنوب هاتاي. الصورة إذن واضحة جدًا.. تحت ذريعة «داعش»، الذي لا يظهر أن هناك جهة متحمّسة للتخلص منه – على الأقل حاليًا – تخوض روسيا حربها الخاصة في سوريا لفرض نفوذها الصريح، ودعم «حليفتها» التكتيكية» إيران، وضرب نفوذ تركيا واستطرادًا ضرب «الإسلام السنّي السياسي» على امتداد المنطقة. وفي المقابل، توفّر واشنطن لسياسة موسكو كل الظروف المساعدة على تحقيقها غاياتها. فهي تشترط على «المعارضين» السوريين الذين تسلحهم وتدرّبهم ألا يقاتلوا قوات النظام، بل «داعش» حصرًا. وهي أحجمت عن حماية المدنيين في غوطة دمشق وحلب وحمص برفضها المستمر «الملاذات الآمنة» و«مناطق حظر الطيران»، لكنها دعمت الميليشيات الكردية في عين العرب ومحافظة الحسكة. ثم إنها تتغاضى عن تصاعد التدخل الروسي العسكري، وتخذل حليفتها «الأطلسية» تركيا في مواجهتها الحالية مع التصعيد الروسي على حدودها وضد رعاياها ومصالحها. هذا «اللاموقف» الأميركي ما عاد «لا موقف» أو مجرد سوء تقدير. إنه استراتيجية حقيقية مَن رَسَمها يدرك تمامًا إلى أين ستنتهي، ولا يرى أن الثمن الذي ستدفعه المنطقة كلها سيكون باهظًا جدًا، أقله على صعيد المعاناة الإنسانية. فهي قد تغدو قريبًا بيئة خصبة لجيل آخر أكثر نقمة وعنفًا وكراهية من المتطرفين الإرهابيين. لقد ارتبط تاريخ تركيا بالمنطقة العربية على امتداد أكثر من أربعة قرون منذ عام 1516، بعد معركة مرج دابق التي فتحت أبواب المشرق للدولة العثمانية. ولم ينته حتى بعد انحسار النفوذ التركي بهزيمة العثمانيين في نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918. واليوم بعد قرابة 100 سنة، تسعى روسيا وإيران لقطع آخر الصلات، وفصل العرب السنّة عن الأتراك جغرافيًا بحزامين، شيعي وكردي.. بمباركة أميركية. كيف ستبدو المنطقة بعد نوفمبر (تشرين الثاني) 2016؟ (أي بعد انتخاب رئيس أميركي جديد). كل المرجو من الرئيس أوباما أن يحترم قسمه بألا يُحدث مزيدًا من الضرر.