خلال الأسبوع الأول من عمليات باريس الإرهابية عمت عواصم العالم هستيريا متوقعة، لكنها لم تكن منطقية، وليست عادلة، فقد تحول العالم إلى ما يشبه حلبة مصارعة احتفظ فيها المتصارعون بلياقتهم البدنية، لكنهم فقدوا توازنهم الذهني. شددت الإجراءات الأمنية في نسبة عالية من عواصم الدول الأوروبية، وجرت مداهمات عشوائية كان ضحيتها الأبرياء الذين عانوا في البداية من عصابات الإرهاب، قبل أن ينالهم انتقام السلطات. ورغم مضي ما يربو على أسبوع على تلك العمليات الإرهابية الدامية، لكن تداعياتها ما تزال تجتاح العواصم الأوروبية تلك التي تصر، وهي محقة في ذلك طالما تحرت الدقة وتحاشت الانتقام، على تشديد الإجراءات الأمنية لحماية حدودها من اختراقات تقود إلى تكرار ما تعرضت له العاصمة الفرنسية. ففي بلجيكا، أعلن رئيس الوزراء البلجيكي شارل ميشال إبقاء حالة الإنذار بمستواه الأقصى في بروكسل، معلناً في المقابل إعادة تسيير القطارات وإعادة فتح المدارس تدريجياً، مع فرض تدابير أمنية إضافية، كما سيعاد فتح مترو (بروكسل)، أيضا. على نحو موازٍ، أعلنت السلطات القبرصية أنها أوقفت ستة فرنسيين في مطار لارنكا آتين من سويسرا يشتبه بارتباطهم بمجموعات إرهابية، وسيتم إبعاد المشتبه بهم إلى الوجهة التي قدموا منها، سويسرا، حيث ستتولى السلطات الفرنسية أمرهم. بخلاف هؤلاء، وعلى نحو متوقع، سارع رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو إلى تعزيز الإجراءات الأمنية ضد (من أسماهم) الإرهابيين في الضفة الغربية المحتلة. وأكد نتنياهو رفع كل القيود على أنشطة الجيش والأجهزة الأمنية. وكان نتيجة ذلك المباشر قتل ثلاثة فلسطينيين برصاص قوات الأمن الإسرائيلية. وهم شهداء في قائمة طويلة من الضحايا من القتلى والجرحى والمتضررين تفوق أعدادهم المئات في فترات قصيرة لا تتجاوز الأشهر المعدودة. صمت العالم أمام مجازر تل أبيب في المدن الفلسطينية، وهياجهم أمام ما جرى في باريس يرفع علامة سؤال: لماذا تنفرد سلطة الكيان الصهيوني بحقها المشروع في تصعيد إجراءات الانتقام الذي يصل إلى القتل الجماعي كلما تعرضت بقعة من بقاع العالم إلى أي شكل من أشكال الإرهاب؟ وعلى نحو مساوٍ، لماذا يجد الشعب الفلسطيني، وحده دون شعوب العالم الأخرى، مرغم على تحمل تبعات تلك العمليات الإرهابية، بجرعات أكبر ووتائر أسرع؟ ومن يتابع تاريخ الحركة الصهيونية الإرهابي، ويربط بينها وبين مسار تلك الإرهابية، بوسعه أن يتلمس الإجابة على تلك التساؤلات ويلخصها في النقاط التالية: 1. الاختلال في موازين القوى العربية الصهيونية لصالح هذه الأخيرة. ولا يعود ذلك إلى تفوق هذه الأخيرة وحده، بل يرجع أيضا إلى رفض العرب إلى تجيير قواهم، حتى في بعض المراحل الآنية التي انقلبت فيها الموازين لصالح الكفة العربية، والتي كان في وسع العرب الاستفادة من ذلك، لصالح قضيتهم فأضاعوا مثل تلك الفرص الثمينة، مقابل مكاسب آنية ضيقة ومحدودة، غابت في ثناياها تلك القومية الاستراتيجية التي كانت بوسعها أن تحاصر العدو الصهيوني في زوايا ضيقة. 2. قدرة العدو الصهيونية الإعلامية الفائقة، بفضل البنى التحتية الإعلامية المتينة التي أنشأتها المؤسسات الصهيونية عبر قرون من الزمان، والقادرة على تحريكها في اللحظات الحاسمة التي تحتاج فيها لها. مثل تلك البنية ليست بالضرورة مملوكة لتلك المؤسسات، لكن طبيعة العلاقة التي تربط بينهما كفيلة بتجيير حركة الإعلام العالمي في صالح السياسات الصهيونية، بما فيها عمليات الانتقام التي يشهدها المواطن الفلسطيني كل يوم. 3. ضعف البنية التحتية الإعلامية العربية، بما فيها الفلسطينية، هذا إن وجدت، التي يفترض فيها أن تكون الجهة المناهضة لأنشطة تلك التي بحوزة العدو الصهيوني. ومن الخطأ، بل وحتى السذاجة المفرطة في غبائها، أن يجرنا الحديث عن الضعف النسبي العربي، نحو حصر المقارنة في الجانب المالي، وعلى وجه التحديد في السيولة النقدية. فالبنية التحتية الإعلامية الكفوءة لا تعتمد على السيول النقدية وحدها، فهي تتسع لتشمل المفهوم والموارد البشرية والتحالفات الدولية... إلخ. 4. الأزمة الطاحنة الأزلية الذاتية التي تعاني منها القضية الفلسطينية، وهي الشرخ العمودي، غير المبرر في الجسد الفلسطيني، والذي أخذ، وما يزال يأخذ أشكالاً متعددة في كل مرحلة من مراحل الصراع الفلسطيني الصهيوني، والذي لا تكف الفصائل الفلسطينية عن تبريره، ولا يتوقف العدو على الاستفادة منه ومن تداعياته. ففي كل مراحل الصراع الطويل، وحتى عندما كانت الفرص سانحة، والظروف مواتية، لم تستطع فصائل العمل الوطني الفلسطيني، أن تميز بين التناقض الرئيس الذي يحكم علاقاتها مع عدوها الأساسي وهو المؤسسة الصهيونية، وبين تعارضاتها الثانوية التي تبرز في صفوفها، وهي طبيعية ومنطقية، التي تميز بين فصيل وآخر. لكن من الخطأ الجسيم أن يأسرنا هذا التشخيص داخل دائرة سوداوية من اليأس، بل ليس هذا هو هدف رسم هذه الصورة التي تبدو قاتمة من الخارج، أو عند الوهلة الأولى من تأملها. ففي جوهر هذه النظرة تكمن دعوة صادقة يملؤها التفاؤل، ويغديها الأمل، تقوم على إيمان مطلق ليس بعدالة القضية الفلسطينية فحسب، بل بحتمية انتصارها، بالمنظور التاريخي لمسارات هذه القضية. ولعل في الكثير مما نشاهده من سلوكيات العدو الصهيوني، بما فيها عمليات الانتقام الوحشية التي لا يكف عن اللجوء إليها علامات إيجابية تشير إلى بداية عمل عناصر الضعف التي بدأت تدب في جسد المؤسسة الصهيونية، بكافة إداراتها الحاكمة وغير الحاكمة. وليس المطلوب هنا، بعد التحلي بالأمل والثقة، سوى البدء في عمل جاد مسؤول يضع الاستراتيجية الصحيحة التي، بوسعها وحدها، بعد الإيمان بها، والعمل الجاد من اجل تحقيقها، أن تقلب الطاولة في وجه المشروع الفلسطيني، وتعيد الأمور إلى نصابها، وترجع الحق لأصحابه.