أجواء الاحتقان المتزايد في مصر تنذر بمخاطر كبرى وتثير القلق مما تحمله الأيام والأسابيع المقبلة للبلد الذي فقد بريق أيام الثورة ليغرق في دوامة من الإحباط والكآبة، إلى الحد الذي جعل أحاديث كثيرة تتردد حول الجيش ودوره في بلد اعتاد على أن يعيش تحت مظلة دور المؤسسة العسكرية في الحكم لأكثر من ستين عاما. اللافت أن هذه الأحاديث لم تعد تدور همسا أو على استحياء، مثلما أنها ليست قاصرة على منتديات وساحات الإنترنت، بل باتت تتردد علنا ويخوض فيها سياسيون ومحللون عبر منابر عامة، وتسمعها من كثير من المصريين الذين دب اليأس في نفوسهم مما آلت إليه الأوضاع ووصلت إليه البلاد مع الذكرى الثانية للثورة التي تبخرت كل الآمال والأحلام التي رافقتها وحلت محلها مماحكات السياسة ومناوشاتها، لا سيما بعدما طغى «الإخوان» على المشهد وكشفوا عن تصميمهم للهيمنة على الساحة. اللغط حول الجيش تزايد بعد تصريحات الفريق أول عبد الفتاح السيسي القائد العام للقوات المسلحة المصرية وزير الدفاع والإنتاج الحربي التي حذر فيها من خطر انهيار الدولة إذا استمر تردي الأوضاع، والتصريحات المتتالية من مسؤولين عسكريين عن أن الجيش يقف على مسافة واحدة من كل القوى السياسية وأن دوره حماية الوطن والشعب. كذلك اضطرت الرئاسة وقيادة الجيش إلى إصدار نفي للشائعات التي ترددت عبر الإنترنت وتناقلتها بعض وسائل الإعلام عن توقع صدور قرار من الرئيس محمد مرسي بإقالة اللواء السيسي. لكن النفي لم يهدئ الأجواء أو يوقف التكهنات والشائعات، إذ انشغلت مواقع التواصل الاجتماعي، التي تكاد تكون المحرك الرئيسي للأخبار والأحداث في مصر، بكلام نسب إلى عصام سلطان نائب رئيس حزب الوسط، وهو حزب ذو مرجعية إسلامية، انطوى على تحذير خطير من أنه إذا انقلب الجيش على السلطة «سنستعين بجيوش صديقة للعودة إلى رأس الحكم». وبعدما سرى التصريح كالنار في الهشيم على المواقع الإنترنتية، أصدر سلطان نفيا على صفحته في الـ«فيس بوك» وصف فيه الكلام بالسخيف والمتخلف. المشكلة أنه في عالم الفضاء الإنترنتي كثيرا ما يصعب احتواء الشائعات بمجرد انطلاقها وتداولها، فبدلا من أن يطفئ النفي لهيب التكهنات، بدأ الناس يتداولون كلاما آخر نسب هذه المرة إلى الشيخ حازم أبو إسماعيل، ولم يتسن تأكيده بالطبع، ورد فيه أن الرجل حذر الجيش من أنه إذا فكر بالانقلاب فسوف يكون مصيره «كمصير الجيش النظامي السوري». ورغم أن الشيخ أبو إسماعيل عرف بمواقفه المثيرة للجدل وتصريحاته النارية، كما أنه سبق له أن حذر من الانقلاب ودعا الرئيس مرسي للحسم، فإن الكلام الأخير يبقى في إطار أجواء الشائعات. المهم أن هذه الأجواء تعكس حالة البلبلة والقلق في مصر، والمخاوف عند البعض والآمال عند البعض الآخر، من احتمال تدخل الجيش مع استمرار التردي الأمني والاقتصادي والاحتقان السياسي. فالإخوان بممارساتهم ومناوراتهم خلال الفترة الماضية نجحوا في أمر سيكونون أول من يدفع ثمنه، وهو تهيئة الشارع لتقبل فكرة تدخل الجيش كمخرج من الأزمة. والانتخابات البرلمانية التي دعا إليها مرسي بحيث تبدأ في 22 أبريل (نيسان) المقبل وتجرى على أربع مراحل تنتهي في يونيو (حزيران) لن تؤدي إلا لصب المزيد من الزيت على النار المشتعلة، بعدما أعلنت القوى الأساسية في المعارضة عزمها على المقاطعة مما يجعل المنافسة فيها تكاد تكون محصورة بين أحزاب الإسلام السياسي يتقدمها حزب الإخوان، وهو سيناريو يبدو في نظر الكثيرين بمثابة وصفة لاستمرار المظاهرات والاحتجاجات، وزيادة الشحن والتوتر بكل ما يعنيه ذلك بالنسبة للوضع الاقتصادي والسياسي. فمصر تقف الآن على شفا الانهيار الاقتصادي وما يسميه البعض باحتمال ثورة جياع مع تنامي العجز في الميزانية وتراجع السياحة وانخفاض قيمة الجنيه وتقلص احتياطيات العملة الصعبة إلى ما دون مستوى 15 مليار دولار الذي تحتاجه الدولة لتغطية واردات ثلاثة أشهر. الانتخابات النيابية كانت ستصبح فرصة لإزالة شيء من التوتر والشكوك بين الإخوان والقوى السياسية، لو أن الرئاسة لم تعالجها بالطريقة ذاتها التي تعاملت بها مع موضوع الدستور، أي تجاهل المعارضة والإسراع بتمرير تعديلات قانون الانتخابات في مجلس الشورى الذي يهيمن عليه الإخوان وحلفاؤهم، وإعلان مواعيد الاقتراع من دون التشاور المطلوب في ظل أجواء الاحتقان الراهن. الغريب أن الإخوان في استعجالهم لتمرير موضوع الانتخابات أعلنوا عن بدء المرحلة الأولى في تاريخ يتضارب مع أعياد الأقباط الأمر الذي أثار موجة أخرى من الاحتجاجات ودفع الرئاسة للتراجع وإعلان جدول زمني للتصويت، مما يعكس حالة من التخبط إزاء قرار ستكون له تداعيات كبيرة على الوضع السياسي. إجراء الانتخابات في مثل هذه الأجواء المشحونة يبدو مثل زيادة سرعة قطار يتجه نحو هاوية بدلا من كبح اندفاعه. فالإخوان الذين أغوتهم السلطة لا يريدون التمهل أو التوقف للتوصل إلى حلول مهدئة مع القوى الأخرى، كما لا يبدون مقتنعين بأن الأزمة وظروف المرحلة تتطلبان تضافر كل الجهود، وجمع كل الطاقات في حكومة وحدة وطنية لإنقاذ البلد وتوجيه دفته في مرحلة انتقالية بالغة الخطورة وكثيرة التعقيدات. هذا الأمر تأكد بعد ظهور مرسي في حوار تلفزيوني مطول قبل ثلاثة أيام، حسب كثيرون أن الهدف منه هو التهدئة، لكنه لم يؤد إلا للمزيد من النقد والشحن، وللكثير من السخرية والتندر بين المصريين بعد عرضه متأخرا أكثر من خمس ساعات عن موعده المقرر في الثامنة مساء. الرئيس لم يقدم تنازلات إزاء مطالب المعارضين بل قال: «لن يوقفنا أحد»، ولم يتبن لغة تصالحية مع المحتجين بل هدد بالحسم وبعدم التهاون مع من وصفهم «بالبلطجية الذين يقولون: إن هناك عصيانا مدنيا». الاحتقان الشديد سيصب في اتجاه دفع الأمور نحو مواجهة عاتية باتساع العصيان المدني الذي بدأ في بورسعيد وامتد إلى مدن أخرى.. أو بالانزلاق نحو انفلات وثورة جياع تفتح الباب أمام سيناريو الانقلاب. *نقلاً عن "الشرق الأوسط" الدولية ** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.