حين يعلق الشاعر على نصه، ما الدرجة التي نضع فيها هذا التعليق قربا أو بعدا من الرؤيا الشعرية التي يحتضنها نصه؟ في مناسبات كثيرة رأيت رؤى لمبدعين من الشعراء، حفزتني للمتابعة والمقارنة التي ظهر لي منها أن ذلك مرهون بمكان الشاعر في الوعي الشعري، والرؤية النقدية، فشاعر مثل أدونيس، صلاح عبدالصبور، محمد بنيس، المنصف المزغني، علي الدميني، تختلف رؤيته لنصه عن شعراء آخرين يبدعون النص، ثم يتلقونه وفق النمط العام من التلقي ؛ ذلك أن رؤية الشاعر لنصه تتخلق من الوعي الذي أنتج، ومن الوعي الذي يتلقى، يفتح نصه ولا يغلقه بكلام عابر بعد الشعر، يعيش في رؤيا النص، يبحر في اللغة بقدر ما يتهيأ لها من احتمالات، يجعل نصه خلاقا لقراءات تتجدد. استمتعت مرات لشعراء، يعلقون أثناء إلقاء النص، وجدت أن ذلك التعليق مستفز لعلاقة القارئ مع النص، ومفتئت عليها، ورأيت بعض الشعراء يحرق نصه وتاريخه الشعري، حين يرمي بنصه في أرشيف الذاكرة، ويشير إلى أن رؤية النص الذي قرأه لا تشير إلى أفق حاضر، لم يعد يشعر فيه بمثل ذلك الشعور الذي شكل نصه ذات يوم، وصنع رؤياه المتجاوزة. شعر الرؤيا يتجاوز إطار المناسبة، والارتهان لظروف محددة، وتلوينات في إيقاع التاريخ ؛ لذلك حين تترامى إلينا أصوات أمرئ القيس حين يقول : وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي والمتنبي حين يقول: بقائي شاء ليس هم ارتحالا وحسن الصبر زموا لا الجمالا والبارودي حين يقول: خلقتُ عيوفا لا أرى لابن حرة علي يدا أغضي لها حين يغضب نبحر خلف إبداعها لا نقرن امرأ القيس بليلة ذات عصر قبل الإسلام، ولا المتنبي برحيل محدد، ولا عزوف البارودي عن ابن حرة محدد، بل إن النص ينفصل عن قائله ويصبح رهنا لاستشهاد من يشعر بمثل هم امرئ القيس، ورحيل المتنبي، وأنفة البارودي. وحين نقرأ الخبت لعلي الدميني، وأين اتجاه الشجر لثريا العريض، وتغريبة القوافل والمطر لمحمد الثبيتي، فإن ما تلا ما حول تلك النصوص، من تحولات في موقع الإنسان، والمرأة، والعلاقة مع المجال السياسي، ونظم الاقتصاد والاجتماع والإعلام.. كل ذلك لم يستطع أن يغبش على نور تلك الرؤيا التي جسدها نص كل واحد منهم. لهذا حين يأتي شاعر ويرمي رؤيا نصه الذي مضى عليه عقود في أرشيف الذاكرة، فإنه يكف قدرة تلقيه عن حيوية نصه التي نبضت من حركة التشظي والالتئام، وظلت شامخة عصية عن تحديده لها بعقد من التاريخ.