الصناعة عامل رئيس في نمو الحركة الاقتصادية، وفي تحسين واستقرار الوضع الاجتماعي لفئات المجتمع، ومن الصناعة التي أصبحت من ضمن أولويات الحكومات لبناء اقتصاد قومي قوي وتنافسي، الصناعة الرياضية، فهذه الأخيرة صارت من مؤشرات القوة الاقتصادية، لما لها من عائدات اقتصادية ومادية، فالرياضة أصبحت قبلة سياحية لفئة عريضة من جمهور المجتمع، ونمو السياحة الرياضية الوطنية محكوم بمجموعة من الشروط، على رأسها مستوى المنتوج الرياضي المعروض في سوق الرياضة، ثم طبيعة ونوعية ثقافة المستهلك، والنوعية هنا تحدد في طبيعة الثقافة الاستهلاكية التي يُنتجها الجمهور الرياضي، فكلما كانت ثقافة الاستهلاك ترقى إلى المستوى الإنساني والحضاري كلما زاد حجم الحركة السياحية الرياضية، وكلما كان الاستهلاك مصحوباً بسلوكيات وثقافة الشغب، كلما كانت أسهم الجمهور متدنية في معادلة العرض والطلب، والمُلاحظ في أغلب الاستراتيجيات المسطرة والمبرمجة لتأهيل وتطوير الشأن الرياضي أن الجمهور لا يأخذ فيها حظاً ونصيباً من الاهتمام، أي ليست هناك رؤية في صناعة ثقافة استهلاكية حضارية تضمن استقرار وزيادة نمو الاقتصاد الرياضي، فقد ساد الاعتقادُ خطأ أن صناعة التاريخ الرياضي يصنعه المتخصص فقط «المدرب، اللاعب..»، بل هو طرف من هذه الصناعة إلى جانب فاعل أكثر قوة وحضوراً وهو الجمهور الرياضي، ومساهمته تتمحور حول طبيعة الثقافة الاستهلاكية التي يُنتجها، فهي إما ثقافة تصنع العمران الرياضي والرياضة الحضارية أو ثقافة تصنع الركود والكساد الرياضي، ولبيان ذلك، فإن شغب الملاعب يُعد من المعيقات الرئيسة للحركة الرياضية، وإضعاف الاقتصاد القومي الرياضي. كما تُعد ظاهرة الشغب من الظواهر التي تستدعي مقاربات عدة للإحاطة بكل زواياها وتفرعاتها بغية احتوائها، والشغب هو نتاج لظروف وشروط اقتصادية، اجتماعية، تربوية، وثقافية، إذا ما اجتمعت بعضها أو جلها أنتجت بشكل حتمي الشغب، وحقيقته أنه ذو بنية متداخلة ومركبة، ولمعرفة أسبابه وهي على تعدادها متنوعة ومتغيرة، إلا أننا سنسلط الضوء على عامل من العوامل المساهمة في إنتاج وصناعة الشغب، وهو ثقافة المستهلك وما يصاحبها من سلوكات وأفعال، ولمعرفة أسبابها وطبيعتها ونتائجها يكفي الوقوف على جدلية علاقة المستهلك بالمنتوج الرياضي وعلى المناخ الثقافي والأخلاقي السائد في المجتمع، فطبيعة المنتوج الرياضي المعروض في أسواق الرياضة هو من بين المحددات لطبيعة ثقافة الفرجة والاستهلاك، فكلما ارتقى المنتوج إلى مستوى الجودة والاحترافية كلما ارتقت ثقافة الفرجة إلى المستوى الإنساني والحضاري، وكلما تخلَّف وانحط المنتوج إلى مستوى الهواية، كانت ثقافة الفرجة أقرب إلى البدائية منها إلى الثقافة المستنيرة والمتنورة، فالمستهلك بحاجة إلى الفرجة ذات الجودة العالية، لإشباع ظمأ الاستمتاع، وهذا ما دفعه إلى هجرة المنافسات المحلية إلى المنافسات الدولية، والمتأمل في عمقها يجدها هجرة نفسية وثقافية كسرت الحدود الجغرافيا، بحثاً عن المتعة والفرجة، مما أنتج عنه بشكل حتمي الانتماء العاطفي للنادي بدون أداء رسوم الانخراط، فيصبح النادي جزءاً من هوية وشخصية المستهلك، وهذا واضح من خلال لغته أثناء حديثه عن النادي المحب له، كأنه صاحب أسهم أو منخرط فيه، مما ينتج عنه عداء وتعصب خفي اتجاه الأندية المحلية، لأنها لم تُشبع حاجياته لضعف وفقر منتوجها، وهذا العداء والتعصب الخفي يتجلى في أفعال الشغب، فالنظرة الكلاسيكية لعلاقة المستهلك بالمنتوج الرياضي ودورها في صناعة الحركية الرياضية أصبحت متجاوزة مع العلوم الإنسانية الحديثة، فالعلاقة هي أكبر مما كان متصوراً، فهي علاقة اقتصادية وثقافية وحضارية. أما ما يتعلق بالمناخ الأخلاقي العام، فالظاهر في الشغب أن أصل الداء فيه أخلاقي، فلو كان هناك وازع قيمي قوي لما زاغ المشجع عن السلوك القويم، وكحل إجرائي للمعالجة وللتشذيب فلابد من مقاربة الشغب من الزاوية الأخلاقية، وذلك من خلال بلورة رؤية وطنية في إطار مشروع أخلاقي ينهض بالفاعلين الرياضيين من مدربين ولاعبين ومشجعين، وهذا لن يتأتى إلا من خلال عقد تشاركي يجمع كلا من الأندية الرياضية، و وزارة التربية الوطنية، والجمعيات الرياضية، وجمعيات المحبين والمشجعين «الألترا»، تحت إشراف وزارة الشباب والرياضة، فنحن لم ننخرط بعد في الرهان الجديد للممارسة الرياضية وهو الرهان الأخلاقي، الذي يصور على أن الرياضة أخلاق قبل أن تكون إنجازاً، فهذه هي الفلسفة الحقيقية للرياضة: الأخلاق قبل الإنجاز، وهذا لن يتحقق إلا من خلال مشروع وطني يهدف إلى تهذيب الحياة الرياضية عن طريق صياغة مقاربة أخلاقية وطنية ترقى بالممارسة والفرجة الرياضية إلى مستوى قيم المواطنة، قيم الانتماء، قيم المسؤولية، قيم الاحتراف، قيم المنافسة، قيم التسامح، قيم الاندماج، قيم الفرجة، وكل القيم الكونية التي تهدف إلى صناعة الشخصية الأخلاقية للرياضيين كمدربين وكممارسين وكإعلاميين وكجمهور. فالمقاربة الأخلاقية مسألة جوهرية لإصلاح داء الشغب، فإذا كان عرب الأمس قد سوَقوا لقيمنا الإسلامية من خلال لغة التجارة، لغة البيع والشراء، لغة الاقتصاد، فدخل الناس في دين الله أفواجا وعمَ الأمن والسلام والبناء، فنحن عرب اليوم لنا نفس الإمكانية وأكثر في التسويق لقيمنا من جديد من خلال لغة الرياضة، اللغة التي يفهمها كل العالم، على الرغم من الاختلاف القائم في اللسان والدين والعرق والجغرافيا، فالمقاربة الأخلاقية إلى جانب المقاربة القانونية الزجرية بالإضافة إلى تحسين مستوى العرض الرياضي يشكلان معادلة إصلاحية لثقافة الفوضى، ولوضع حد فاصل مع ثقافة الشغب وللانتقال من جمهور صانع للفوضى والعنف إلى جمهور صانع للفرجة وللحدث، من جمهور يُعيق نمو الرياضة الوطنية إلى جمهور فاعل في تطوير الصناعة الرياضية القومية. فالمقاربة الأخلاقية هي ضرورة علمية للارتقاء بالفرجة الرياضية، ومن يرى عكس ذلك فهو خارج الحتمية التاريخية لعلم الرياضة.