×
محافظة المنطقة الشرقية

الشرعية على بعد 20 كيلومترا من قلب تعز

صورة الخبر

حسن المودن.. ناقد مغربي، متعدد، ومتمكن من أدواته النقدية الحديثة، صدرت له مجموعة من الدراسات، من أهمها في النقد النفسي للأدب، مغامرات الكتابة في القصة القصيرة المعاصرة (الرباط 2013)، الرواية والتحليل النصي، قراءات من منظور التحليل النفسي، الكتابة والتحول، ومن الترجمات في هذا المجال: الرواية البوليسية والتحليل النفسي لمؤلفه بيير بيار، التحليل النفسي والأدب لمؤلفه جان بيلمان نويل، أما الأبحاث، فمنها الحجاج، مفهومه ومجالاته «حجاجية المجاز والاستعارة» ضمن مؤلف جماعي، الحجاج، مفهومه ومجالاته، مشكلات الحجاج بواسطة الإيتوس، من البلاغة إلى تحليل الخطاب، من تأليف: دومينيك مانغينو، ضمن مؤلف جماعي: التحليل الحجاجي للخطاب. وعلى هامش لائحة الشيخ زايد، وبلاغة الخطاب الإقناعي، نحو تصور نسقي لبلاغة الخطاب، كان لنا معه هذا الحوار: • دعنا نبدأ من البدايات، كيف كان التشكل ولماذا هذه الاتجاهات؟ •• كان ميلادي سنة 1963 بقرية جبلية جنوب المغرب، والدي رحمه الله كان من رجال التعليم العصري، وأجدادي كانوا على ما يحكى من أهل الدين، مشهورين بخدمة الجوامع والمساجد، ومن هنا اسمنا العائلي: المؤذن. وقبل أن ألتحق بالمدرسة العصرية الجديدة في القرية، تلقيت تعليمي الأولي بجامع القرية، حيث كنا نحفظ القرآن الكريم، ونجدد ألواحنا كل صباح باكرا. بهذه القرية حصلت على شهادتي التعليمية الأولى (الابتدائية) سنة 1975، وبهذه القرية نشأت على قيم التعايش والتعاون والتربية على التواصل والتحاور والتفاهم، وهي القيم التي ستزداد ترسخا بعد أن انتقلت لاستكمال دراستي الثانوية والجامعية بفضاءات مدينية مجاورة (مدينة الصويرة أولا، ومدينة مراكش بعد ذلك) تدهشك بتعدديتها الثقافية وبقدرتها على تدبير التعايش والتضامن وضمان حق الآخر في الاختلاف. وغالبا ما أتساءل اليوم، لماذا فضلت منذ أكثر من عشرين سنة أن أستقر بمدينة صغيرة اسمها: شيشاوة، فلم أجد من جواب إلا أن هذه المدينة هي الأخرى فضاء متعدد ثقافيا (ثقافة عربية، ثقافة أمازيغية، ثقافة حسانية)، وهي في الواقع ملتقى طرق، منها ما يؤدي إلى قريتي الأصلية، ومنها ما يؤدي إلى مراكش، ومنها ما يؤدي إلى الصويرة، ومنها ما يؤدي إلى مدن أخرى من المغرب. ويبدو أني لا أستطيع الحياة إلا في نقطة تتقاطع فيها الطرق، ولا أستطيع الوجود إلا في فضاء اجتماعي وثقافي متعدد ومتسامح، متعاون ومتضامن. وبالنظر إلى مساري العلمي والأكاديمي، فقد كان طموح التحديث والتجديد سنوات الثمانينيات والتسعينيات الموجه الأكبر لأكثر الطلبة الباحثين في الجامعة المغربية، وخاصة بعد انفتاحها على العلوم اللغوية والأدبية الحديثة، على يد مجموعة متميزة من الجامعيين المغاربة الذين أسسوا للدرس النقدي العربي الجديد، بدروسهم ومحاضراتهم، بمقالاتهم ومؤلفاتهم، بترجماتهم وإبداعاتهم، بندواتهم العلمية ومنابرهم العلمية والثقافية. وفي إطار هذا البحث الطموح عن الأداة المنهجية الحديثة، يندرج بحث الإجازة في الأدب العربي الذي أنجزته سنة 1986 تحت إشراف الأستاذ الكريم محمد البكري الذي يعود إليه الفضل في انفتاحي على الدرس اللساني والسيميائي، وفي تكويني الأول في مجال الترجمة التطبيقية. وفي الإطار نفسه، يندرج بحثي لنيل دبلوم الدراسات العليا في الآداب الذي قدمته سنة 1996، وبفضل الأستاذ الفاضل محمد برادة، كان انفتاحي على التصورات والمناهج النقدية النفسية الجديدة التي لم تعرف طريقها بعد إلا قليلا إلى النقد العربي المعاصر، فأنجزت دراسة تطبيقية للرواية من منظور التحليل النفسي، ونشرت ترجمة لكتاب أساس في التنظير للنقد النفسي الجديد، وواصلت العمل في هذا المسار، بإصدار مؤلفات في النقد النفسي التطبيقي، ومقالات نظرية وتطبيقية، وترجمات لأحدث التصورات النقدية النفسية التي ظهرت بعد ذلك. لكن، وبطريقة موازية، كان هناك طموح آخر لا يقل أهمية، إن لم يكن هو الأكثر أهمية، بدأ يتبلور في الجامعة المغربية في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، على يد مجموعة أخرى من الجامعيين والباحثين المغاربة، لا تقل تميزا عن المجموعة الأولى، لكنها منشغلة أكثر بإيجاد جسور تواصل وحوار بين القديم والجديد، تجمع بين التكوين التراثي الصلب (وخاصة في علوم اللغة وعلوم البلاغة القديمة) والتكوين الحداثي المنفتح (وخاصة على علوم البلاغة الجديدة والتداوليات ونظريات الحجاج ونظريات القراءة والتلقي). وفي إطار هذا الطموح الثاني، تندرج أطروحتي الجامعية لنيل دكتوراه الدولة في الآداب التي ناقشتها سنة 2006، وفي إطاره تندرج ترجماتي ودراساتي اللاحقة، كما مرافعتي لنيل شهادة التأهيل الجامعي سنة 2015، وهو ما أتاح لي تعميق الاتصال باللغة العربية، بأسرار فصاحتها وبلاغتها، لكنها، في الوقت نفسه، الأبحاث التي سمحت لي بأن أكتشف ما في الحداثة من تراث، وما في التراث من حداثة. ولم تكن تلك الأبحاث لتستوي وتنضج من دون توجيهات أساتذتي الأفاضل وملاحظات أصدقائي من الجامعيين والباحثين، وخاصة الدكتور محمد العمري، والدكتور محمد آيت الفران والدكتور عبدالواحد بن ياسر والدكتور عباس ارحيلة والدكتور علي المتقي والدكتور محمد زهير.. وبهذا كله، أجدني مرة أخرى باحثا في تلك المناطق البينية المعقدة التي يتقاطع فيها التراث والحداثة، الأدب والخطابة، الوعي واللاوعي، الذاتي والاجتماعي، السيكولوجي والسوسيولوجي، بحثا عن آفاق حوار متجدد بين الحاضر والماضي والمستقبل، بحثا عن تجديد أسئلتنا في النقد والبلاغة والترجمة. • الدكتور حسن، ما هي الدوافع التي دفعتك إلى اختيار هذا الموضوع: بلاغة الخطاب الإقناعي؟ •• قد نعود إلى الدوافع المتعلقة بالتخصص وأسئلته وإشكالاته، لكن يمكن أن أصوغ الدافع العام على هذا الشكل: لا ينفصل اهتمام هذا البحث ببلاغة الإقناع عما يجري في العصر الراهن، فالإقناع أبرز إشكالية في عالم يعرف تقدما سريعا ومتواصلا في وسائل الاتصال والتواصل والإعلام. ومن المفترض في هذا التقدم أن يسمح بالحوار والاختلاف والتعدد، وأن يرسخ ثقافة التواصل والإقناع بعيدا عن كل أشكال التوجيه والهيمنة. إلا أن الملاحظ أننا ننتقل من عالم تتعدد فيه الخطابات والأفكار والرؤى، ويمارس فيه التواصل والحوار والإقناع، إلى عالم ينزع إلى خطاب ذي نزعة شمولية كليانية. ولهذا يأتي هذا الاهتمام محكوما بوعي حاد بمسيس الحاجة إلى ثقافة التواصل والإقناع، لأنها تشكل البديل الإنساني عن العنف والتطرف، فتجديد الصلة بالإقناع ينطوي على إعادة الاعتبار للممارسة الحوارية ولقيم الاختلاف والتفاعل، والتي قد تكون بديلا عن الانهيارات والكوارث وأشكال العنف المميز للمشهد العالمي الراهن. وغير قليل من الباحثين المعاصرين يعتبر بألا خيار لخروج العالم من مأزقه إلا الاقتناع بـ« عقلانية تداولية» مرتكزها الحوار وقيم التوسط والتبادل، فما دمنا نتواصل ونتباحث أو نتبادل ونتفاعل، ثمة إمكان لأن نغير ونتغير، فتلك لغة التداول وذلك منطق التحول.. وفي هذا الإطار نفسه، يدعو البعض من الباحثين المعاصرين إلى صيانة الخطاب الإقناعي وحصانته بـ«تداولية كونية» تجعل كل خطاب إنساني يقوم على أسس قيمية أخلاقية متفق عليها. • لماذا العودة إلى البلاغة وبلاغة الخطاب اليوم؟ •• من أواسط القرن الماضي مع أبحاث شايم بيرلمان وستيفان تولمين، وصولا إلى أبحاث الحجاج وتحليل الخطاب في بداية الألفية الثالثة، مع دراسات دومينيك مانغينو وباتريك شارودو، مرورا بالأبحاث الأنجلوساكسونية في مجال البلاغة وتحليل الخطاب، يمكن أن نزعم أن نوعا خاصا من الحيوية قد عاد إلى علم البلاغة الذي انطلق وتطور متفجرا ومتوسعا، كما سجل البلاغي أوليفي روبول، فقد أصبح علما يدرس الخطاب في مختلف أجناسه وأشكاله، التقليدية الراسخة والجديدة المستحدثة، اللفظية وغير اللفظية، الأدبية وغير الأدبية (بلاغة الخطاب الإشهاري، بلاغة الخطاب الإعلامي، بلاغة الخطاب السياسي، بلاغة الخطاب الشعري، بلاغة الخطاب الروائي، بلاغة الخطاب الأوتوبيوغرافي، بلاغة الصورة الفوتوغرافية، بلاغة الخطاب السينمائي، بلاغة اللاوعي). وإجمالا، فمن أهم خصائص هذه الحيوية التي استعادها علم البلاغة، نذكر ما يلي: أولا: الرهان على الاجتماعي: إن البلاغة كما جددها وأدركها شايم بيرلمان قد اتجهت أساسا نحو الاجتماعي، وغايتها أن تبقى وفية للبلاغة الأرسطية، وأدمجت مسألة المخاطب بانشغالها الجوهري بتلقي الجمهور للخطاب. وبهذا الرهان على الاجتماعي تتخذ البلاغة معاني عديدة ذات أبعاد اجتماعية، فهي قد تعني دراسة تقنيات الحجاج، كما قد تعني أكبر من ذلك: دراسة المنطق الاجتماعي؛ وهي قد تعني رغبة البشر في تجاوز انقساماتهم، فتكون وسيلة لرفع التوتر بين الأفراد والجماعات بشكل يسمح باجتماعها عن قناعة، كما قد تكون وسيلة لبقاء التوتر وانطلاق الانقسام وتقويته؛ وهي قد تعني تفاهم الأذهان والعقول واجتماعها وتوافقها، كما قد تعني وحدة الرغبات والدوافع والميول والانفعالات. ومن هنا، فكل اهتمام ببلاغة الخطاب الاقناعي لا يمكن، اليوم، إلا أن يعيد الاعتبار للوظيفة الاجتماعية التي تؤديها اللغة الإنسانية. ثانيا: إعادة الاعتبار للبعد الحجاجي: ارتبطت عودة البلاغة في زماننا المعاصر بإحياء بعدها الحجاجي، فقد كان لهذا البعد حضور مهم في بداياتها مع الإغريق، وخاصة مع كتاب أرسطوطاليس في الخطابة، لكنه سيتراجع مع التطور التاريخي ليفسح المجال لسيادة الصورة والأسلوب، وهو تراجع سيستمر مع الشكلانيات والشعريات وبعض التيارات البلاغية الحديثة التي تريد أن تكون محض أدبية بدون أية علاقة بالإقناع، وتختزل البلاغة في أوجه الأسلوب ومحسناته ومعرفة طرائق اللغة الخاصة بالأدب. والأمر نفسه تمكن معاينته في التراث البلاغي العربي، بحيث أبرزت الكثير من المصنفات التي تراكمت منذ عبدالله بن المعتز حتى تجنيس البديع للسجلماسي احتفاء خاصا ببلاغة المحسنات دون بلاغة الخطابة التي حدد الجاحظ أهم دعائمها. وعلى العموم، فقبل عقود قليلة، بدأت البلاغة تعرف طريقها إلى العودة، ويوضح جان جاك روبريو أنه بعد الآداب الجميلة والنزعة الوضعية والشكلانية الروسية واللسانيات البنيوية، أدرك الغربيون في النهاية أن ظواهر مهمة من مثل السجال السياسي والخطاب الإعلامي والخطاب الإشهاري تتعلق بطرائق معروفة ومكتسبة من طرف الخطباء والبلغاء منذ قرون. ويذهب العديد من الدارسين والباحثين إلى أن المؤلف الذي أصدره شايم بيرلمان ولوسي أولبريخت تتيكا أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، كان أكبر مؤشر دال على عودة البلاغة. ويظهر ذلك واضحا من خلال العناية التي أولاها لأشياء كانت مهملة، من قبيل تقنيات الإقناع المؤثر، ومن خلال إعادة الاعتبار للبعد الحجاجي، وعدم حصر البلاغة في الأسلوبي والشعري. ثالثا: التوجه نحو مفهوم نسقي للبلاغة: يقول أوليفيي روبول انه ينبغي لنا أن نرفض الاختيار الذي يفصل بين بلاغة الحجاج وبلاغة الأسلوب، لأنه لا يمكن أن توجد الواحدة دون الأخرى، ولأن البلاغة تتألف منهما معا. ويتحدث جورج مولينيي عن «تداولية أدبية» تعتبر النص مكانا يقع فيه شيء ما، ويتم فيه توجيه مجموع العمليات اللغوية في علاقة ما. وبهذا المعنى، فالأدب في نظره إنجازي لا تمثيلي، وما ينبغي للأسلوبي التداولي أن يدرسه هو المواد اللغوية في حمولتها ورهاناتها حين تشغيلها بوصفها ممارسة سيميائية في علاقة بجمهور ما. وقد سجل بول دي مان أنه بعد أن تم إيجاد الحلول للمشاكل المتعلقة بالشكل الأدبي والنظام الداخلي للخطاب الأدبي، وبعد صقل وتقويم تقنيات التحليل البنيوي، صار مهما أن نتجاوز الشكلانية إلى الأسئلة التي تهم الشؤون الخارجية للخطاب الأدبي. وفي الدرس البلاغي العربي المعاصر، نجد البلاغي المغربي محمد العمري يهتم بالمفهوم النسقي الذي يسعى إلى جعل البلاغة علما أعلى يشمل التخييل والحجاج معا، أي يستوعب المفهومين الأولين من خلال المنطقة التي يتقاطعان فيها موسعا لهذه المنطقة إلى أقصى حد ممكن.