تطرد الأحداث بعضها من أمام بعض. الأيام المتسارعة تحيل كل شيء إلى غربال التاريخ ورأي المؤرخين. المثل الفرنسي يقول: «أمس، وما قبل التاريخ، سيان». كم هي الصورة دقيقة. أصبح معمر القذافي شيئًا بعيدًا في تاريخ ليبيا، فالهموم الآن الحكومة الجديدة، والمبعوث الدولي الجديد، والبرلمان الضائع، ومتاهات الحرب الأهلية، ومصير ليبيا، سابقًا الجماهيرية الاشتراكية الليبية العظمى، إلى أي مصير تؤول؟ عندما تهدأ الأشياء وتستقر، إذا هدأت واستقرت ذات يوم، تتحول الثورات إلى كتب، والبطولات إلى رماد، والغطرسة إلى تراب على حصيرة. يبدو معمر القذافي بعد خمس سنوات وكأنه قتل قبل 50 عامًا. لا يأتي ذكره في الصحف إلا عابرًا. ولا يشكل قضية في أي مكان. وحتى أبناؤه ورجاله لا تبدو ليبيا مستعجلة على محاكمتهم والإصغاء إلى ما لديهم. ثمة أشياء أكثر أهمية الآن، الدمار في بنغازي، الرعب في طرابلس، النفط في بريقة.. الخوف في كل مكان. كتاب «نهاية القذافي» للدكتور عبد الرحمن شلقم، يتخذ أهميته من شخصية المؤلف: رفيق للقذافي من أيام الثانوية، وزير خارجيته، ثم مندوبه لدى الأمم المتحدة الذي كان أول من انشق عليه، وبدأ بالتالي تفكيك الشرعية من حوله. هذا ثاني كتب شلقم حول المسألة. الأول، كان «شخصيات حول القذافي» وكان ممتعًا أيضًا. لكن الكتاب الصادر حديثًا يعتمد في نحو ألف صفحة على الوقائع والوثائق، بالإضافة إلى سرد للأيام الأخيرة من عمر جمهورية «ثكنة العزيزية». وفي هذا الكتاب، كما في الذي قبله، يقدم شلقم، الصحافي والشاعر، دراسة نفسية غير مسبوقة «لبطله». وهذا هو الجزء الأهم من العمل. خلاصة الدراسة أن القذافي لم يكن يحب ليبيا ولا الليبيين. نشأ كارهًا لفقر كاسر وعاش عمره يحاول الانتقام. ولد في خيمة في وادي جارف، تغرق في حر الصيف وأوحال الشتاء: «ولم تكن سرت يومها مدينة ولا حتى قرية». يأتيها الرعاة من مصراتة ويقايضون أهلها بما ينتجون. وبعضهم لم يكن يملك ما يقايض به فكان يقترض. من هؤلاء محمد أبو منيار. «كانت المسافة من المدرسة إلى الخيمة رحلة عذاب. هكذا بدأت علاقة اليافع معمر المعادية للمكان». بعدها انتقل للدراسة في مدينة سبها الجنوبية «وأقام في غرفة تعيسة من الطوب بناها بنفسه. لم يكن له ما يشتري به ملابس. وقد كان يرتدي معطفًا من بقايا الجيش الإنجليزي». ثم بدأ يتظاهر من أجل الكونغو والجزائر وإريتريا. كلها قضايا خارج ليبيا. إلى اللقاء..