لم يبقَ لنا في جدّة من الأمطار شيء إلاَّ الخوف، فما عدنا نستبشر بقدومها، ولا نستفيد من مياهها، ولا نتقافز تحت قطراتها، ولا نستزيدها، ونحن نغني: (يا مطرة، حُطّي.. حُطّي). منذ زمن طويل حُرمْنا من ذلك التلاحم الجميل مع أغنى عطاءات الطبيعة، فما أن تعلن النشرة الجوية أن المطر قادم حتى يتلبّسنا القلق، وتجري على ألسنتنا الأدعية التي تستلطف اللطيف، فالمطر الذي نحب تحوَّل إلى كابوس مرعب. كان لا بد لنا أن ندرك أن قرار تعليق الدراسة كان كاشفًا عن عدم جهوزية كل مشروعات التصريف التي صدَّقنا وعودها بعد مأساة سيول 2009، ولو كانت المشروعات مضمونة، والقائمون عليها واثقين من كفاءتها للتحكّم في كميات المياه، التي سبق أن تكدّست في الشوارع، لما تمّ تحذير الناس من الخروج إلى مدارسهم، وأعمالهم. لو سارت تلك المشروعات حسب الخطط التي رأيناها، والعقود التي شهدنا توقيعها، والعهود التي قُـطعتْ، لكان المسؤولون بانتظار المطر مبتهجين باليوم الذي يثبتون فيه للناس أنهم كانوا يعملون لصالحهم، وصالح مدينتهم، طوال ست سنوات من التكسير والردم في الشوارع. ما كان أحد سيصدّق أن أحداث الرعب التي عاشها الناس في 2009 يمكن أن يسمح أحد بتكرارها، فإذا بها تـُعاد بحذافيرها. عندما غاب المطر لفترة، شاع بين الناس أن الرئاسة العامّة للأرصاد تقوم بعمليات تهدف إلى تفريق السحاب الممطر؛ لكيلا يهطل الماء الغزير، ويكشف أن المشروعات الضخمة لم تبارح مكانها، أيّ أنّها مشروعات مع وقف التنفيذ، وهكذا ستظل. لكن التكذيب كان يتوالى من أمانة المحافظة، ومن الرئاسة العامة للأرصاد، فاطمأن الناس، وفسّروا هذا النفي بأنه ليس من داعٍٍ لدفع المطر عن مدينة جدّة، ما دام قد تم تجهيزها لحماية ساكنيها من مخاطر الأمطار ومآسيها. كان هذا قبل ثلاثة أيام من وصول الأمطار الغزيرة التي هطلت؛ لتبرئ الهيئة من تُهمة استخدام الطائرات لرش غاز الكيمتريل في الجو، لكن هطولها كان مفاجأة مريرة، وخيبة أمل كبيرة للناس، الذي ظنّوا أنهم أخيرًا سيكونون بأمان. لم يتغيّر شيء: نفس المياه المتجمّعة، والشوارع، والحواري الغارقة، والسيارات المتعطّلة في الأنفاق، والناس العالقين في كل مكان ينتظرون مَن يسحبهم من وسط البرك القذرة. كيف هان على المسؤولين المعنيين أن يعبثوا هكذا بأحلام الناس؟ كيف هان عليهم أن يعيش الناس كوابيسهم مرّة أخرى وبهذه السرعة؟ وكيف هانت عليهم عروس البحر الجميلة لتتشوّه هكذا، وليتفرّج العالم على تلطيخها، وليتهكم عليها كل حاقد، وليشمت بها كل جاهل؟ نستميحك عذرًا يا رئاسة الأرصاد، ونرجوك أن تعودي إلى البحث عن الغاز المقيت. قولي للمطر: أهل جدة يغالبون الشوق لك، لكنهم ما عادوا يغنون (يا مطرة، حُطّي.. حُطّي)، بل صارت أغنيتهم الحزينة: (يا أرصاد، رُشّي.. رُشّي) !!