ما تعرضت له العاصمة الفرنسية، مساء الجمعة الفائت، لم تعرفه في تاريخها، لا في عام 1961 (تفجير قطار ستراسبو/باريس ومقتل 28 شخصاً)، في عز الحرب الجزائرية، ولا في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم (تفجيرات وخطف رهائن)، ولا في بداية العام الجاري (مجلة شارلي - إيبدو، والمطعم اليهودي). والحدث الذي أجمعت الصحف الفرنسية على وصفه بالـحرب والمجزرة والرعب.. إلخ. سوف يستمر لوقت طويل في احتلال عناوين وسائل الإعلام، وقد يكون من الصعوبة بمكان في هذه اللحظة توقع تداعياته، لكن لا بأس من محاولة قراءته واستشراف مفاعيله على السياستين الداخلية والخارجية الفرنسية. على هوله وضخامته، لم يكن الحدث الإرهابي مفاجئاً أو غير متوقع، كل المحللين والسياسيين في فرنسا توقعوا شيئاً مشابهاً، الجنرال فنسان ديبورج قال في الشهر الماضي: في أحد الأيام المقبلة ستحدث هجمات كبيرة في باريس. والقاضي مارك تريفيديك، صاحب المؤلفات الكثيرة عن الإرهاب، قال في 30 سبتمبر/أيلول الفائت: لدي القناعة بأن رجال داعش لديهم الطموح والوسائل لضربنا بشكل قاسٍ ومباشر عبر تنظيم هجمات واسعة لا تقارن بما حصل اليوم. كتِقَني أقول: الأيام الأكثر سواداً هي أمامنا والحرب الحقيقية التي تنوي داعش شنها على أرضنا لم تبدأ بعد. ويضيف، إنه بالاعتماد على خبرته الواسعة وعلى تحقيقات أجراها مع إرهابيين أُلقي القبض عليهم، يتوقع حدوث مجازر مريعة. من جهتها كانت وحدات التدخل الفرنسية تتدرب، منذ يونيو/حزيران 2011، على مواجهة هجمات إرهابية متوازية مع احتجاز رهائن وأحزمة ناسفة وغيرها، أي تماماً كما حصل في مساء الجمعة الأسود. حتى الأهداف كانت متوقعة (حيثما هناك ازدحام بشري: مباريات رياضية، حفلات موسيقية، ساحات وشوارع مكتظة...)، وقد تم تشكيل ملف خاص بأهداف محتملة للإرهابيين سُميّ حرب الزمان. رغم ذلك حصل ما حصل ليبرهن مجدداً عن استحالة مواجهة مثل هذه العمليات الإرهابية مهما تم الاستعداد لها. في السابق، كان للعمليات الإرهابية أهداف محددة لرمزيتها مثل مطعم يهودي أو دورية للشرطة أو رسامين في مجلة... إلخ، ما حصل بالأمس كان ضد المواطنين العاديين من دون هدف، سوى إيقاع العدد الأكبر من الخسائر البشرية. هذه المرة سيشعر كل المواطنين في فرنسا بأنهم في قلب الخطر، وبالتالي فإن نمط عيشهم قد يتغير. هل سيستمرون بالخروج للسهر ليلاً؟ هل سيشك الجار بجاره، خاصة إذا كان الأخير مسلماً؟ الإسلاموفوبيا سوف تزداد رغم كل الدعوات إلى التمييز بين المسلمين والإرهابيين الجهاديين. مسلمو فرنسا وأوروبا هم أولى ضحايا عملية 13 نوفمبر/تشرين الثاني الإرهابية. على غرار ما حدث في 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة تسببت تفجيرات باريس بحملة تضامن دولي واسعة مع فرنسا، برقيات من زعماء العالم أجمع نددت بالجريمة. معالم دولية مهمة أضيئت بألوان العلم الفرنسي الثلاثة. كلنا فرنسيون أو كلنا باريس غزت مواقع التواصل الاجتماعي في العالم على غرار كلنا أمريكيون، عنوان جريدة لوموند صبيحة تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001. ورغم ذلك يختلف الحدثان في كل شيء تقريباً. الحدث الأمريكي كان مفاجئاً للجميع من كل النواحي، في حين أن الحدث الفرنسي كان متوقعاً، ثم إن الولايات المتحدة استغلت الحدث لاحتلال دول بعيدة، ومحاولة إعادة رسم الخرائط والهيمنة على النظام الدولي، في حين أن فرنسا لا تملك مثل هذه الطموحات ولا وسائل تحقيقها. الحدث الفرنسي أقرب إلى تفجيرات مدريد في 11 مارس/آذار 2004 أو لندن في 7 يوليو/تموز 2005، وتداعياته ستكون محصورة بالداخل أمّا مفاعيله الخارجية فستكون ضئيلة على الأرجح. في الداخل ستتخذ الحكومة الفرنسية إجراءات أمنية ستؤثر على نمط الحريات الفرنسي، وقد أُعلن عن بعضها. والخوف من أن تصدر تشريعات، تعيق الحريات الأساسية، على غرار باتريوت أكت الأمريكي. فهناك دعوات لوضع أكثر من أربعة آلاف مشتبه بعلاقتهم أو تعاطفهم مع الجهاديين، في الإقامة الجبرية. وهناك خوف من أن يتحول أولئك الذين ذهبوا إلى سوريا، إلى قنابل موقوتة لدى عودتهم إلى فرنسا. من الصعوبة بمكان مكافحة الإرهاب بالوسائل الأمنية والعسكرية وفرنسا لا تملك مثل هذه الوسائل، لاسيما أن العدو يعيش معنا، كما أعلن رئيس الوزراء فالس، أي أنه عدو داخلي وليس خارجياً. ومن المؤكد أن يشتد عود اليمين المتطرف في فرنسا، كما في أوروبا، وأن يُعاد النظر بسياسة الهجرة واللجوء، والانتخابات الإقليمية الفرنسية المقبلة، إذا لم تتأجل، ستوضح للمراقبين مدى استفادة اليمين المتطرف من الإرهاب، وستعاني الأحزاب الكبرى القدرة على تقديم مواقف واضحة من مسائل الهجرة وما شابه، بعيداً عن المواقف الانتخابية المترددة والغامضة. على صعيد آخر؛ لا شيء يؤكد أن فرنسا قد تغير سياستها الخارجية وتتوقف مثلاً عن قصف داعش، فهي، كما قال رئيس وزرائها، منخرطة في حرب ضد الإرهاب، وما حصل في باريس جزء من هذه الحرب الطويلة والمريرة. كذلك، فرغم برقية الرئيس الأسد المعزية، والتي تذكر أن سوريا تكافح مثل هذا الإرهاب منذ خمس سنوات، فلا شيء يشي بتغير في الموقف الفرنسي من النظام السوري. هناك مَنْ اقترح سيناريو إسبانياً يقضي بالانسحاب من مختلف مسارح العمليات الخارجية، كما فعلت إسبانيا بعد تفجيرات مدريد عام 2004، وهذا الخيار الإسباني سيحظى بتأييد الرأي العام وعدد من السياسيين الذين يعتقدون أن سبب الإرهاب هو انخراط فرنسا في الساحل والمشرق. لكن هذا السيناريو يبقى صعب التحقيق، لأن ليس لإسبانيا الطموحات الفرنسية نفسها على الساحة الدولية. التفجيرات الإرهابية تطرح مصير أوروبا على بساط البحث. يمكن القول إن اتفاقية شنغن قد تم دفنها مؤقتاً مع الاحتمال الكبير بأن يضحى المؤقت دائماً، حين تحذو دول أوروبية أخرى حذو فرنسا. والسؤال: هل الأوروبيون قادرون على ترجمة كلامهم المكرر حول الاندماج والتضامن إلى أفعال مشتركة في مواجهة الإرهاب الذي يتهددهم جميعاً؟