أسوأ ما في مشهد رفع الدعم عن اللحوم، وعلاوة اللحوم، وكثرة التصريحات والمواقف وتضاربها وكل اللغط المثار حول هذا الموضوع، بدءاً من اعلان وزارة العمل والتنمية الاجتماعية بانها سجلت ارباب 116 ألف أسرة بحرينية في قاعدة البيانات الخاصة بالتعويض النقدي عن الدعم - ارتفع العدد بحسب تصريح لوزير الاعلام الى 145 ألفاً - يضاف الى ذلك تصريح الوكيل المساعد للرعاية والتأهيل الاجتماعي بأن 36 ألف أسرة لم تسجل لتعويض اللحوم من اصل 181 ألفاً.. وتلك الدعوة الموجهة لجميع المواطنين لعدم التفريط في حقهم في التعويض وأن عليهم زيارة الموقع الإلكتروني بوزارة العمل والتنمية الاجتماعية الخاص بهذه المبادرة والمفتوح على مدار 24 ساعة لتسجيل بياناتهم للحصول على التعويض، مروراً بتلك الجلسة النيابية المطولة التي شهدت الكثير من الصراخ المفتعل، والتي استنفر فيها النواب ضد قرار رفع الدعم، وفيها هددوا وتوعدوا الحكومة ولعبوا أدوار البطولة ومعظمهم لا يكفون عن ادهاشنا يوماً بعد يوم، وقد خرج احدهم بطلعته البهية ليقول لنا بالنص: إن الشعب اختارنا، لنصعّد لهجتنا ونطالب بحقوقه، وذهب آخر الى التهديد بان تمرير الميزانية سيكون مشروطاً بالتوافق على إعادة توجيه الدعم، وذهب اكثر من نائب الى التلويح باستجوابات، ولم ينسَ احدهم الى التأكيد بأن الاستجوابات المنتظرة ليست تهديدات، وإنما كلام حق وحقيقي هذه المرة..!! ملاحظة على الهامش، التجارب مليئة بالشهادات على سقوط الشعارات والمزايدات والاستجوابات وكيف تحولت الى ما يشبه العبث او لنقل السخرية الرادحة..!! ولعله هذا الذي نشر بتخفيض سقف مواجهة النواب مع الحكومة وتعويضهم ذلك برغبة غير ملزمة للحكومة فيها اقتراح بصفة مستعجلة بمضاعفة مبلغ التعويض الى عشرة دنانير، وكفى المؤمنين شر القتال، لعل هذا دليل ليس إلا والذي تأتي معه بلا ريب المشاهد والأدوار المطلوبة..!! نقول، أسوأ ما في هذا المشهد ان معاناة وهموم وحقوق المواطنين اختزلت في موضوع رفع الدعم عن اللحوم، وكأن البحرين باتت سوبر ماركت كبير لا يباع فيه سوى بضاعة واحدة: اللحوم وليس ثمة اهتمام او معاناة او توجسات او هموم او مشاكل لدى المواطنين سوى هذه البضاعة، والأسوأ من ذلك ان المشهد بكل تجلياته فيه ما يثقل من المعاني ما لا يستطيع المرء ان يكتم شعوره بالحزن العميق، وفي المقدمة ان مستوى الافكار الضيقة بالجملة والمفرق والغرائز الشعاراتية ليس فقط انها لم تكن في محلها، بل كان فيها مساس بكرامة المواطن وعكست حقيقة ان ليس ثمة جدية كافية للتصدي لمشكلات ومتطلبات المجتمع، والأمر برمته ليس في محيط الدعم فقط، او كل اشكال الدعم الراهن، بل يتجاوز تلك الحدود، ولا غضاضة لمن يريد الصراحة الواجبة فيما يخص الدعم تحديداً القول إن هناك من تعامل مع المواطنين كأنهم متسولون او موضع استجداء، وكل ما على المواطنين ان يأخذوا الدعم بأريحية، وان يكونوا ممتنين ولا يكونوا من الجاحدين، وهذا ليس نموذجاً وحيداً، لعلكم تذكرون قبل اكثر من عام حين تم نشر اسماء المواطنين ذوي العوز في الصحف المحلية، وكأن من فعلوا ذلك ينشرون اسماء الناجحين في الامتحانات.. وها نحن اليوم نجد كيف يتم التعامل مع المواطن المغلوب على أمره والذي ذاق وما يزال اشكالاً من الاحباط والمهانة على خلفية قرار إلغاء الدعم عن اللحوم، وهو القرار الذي صدمنا مرتين، مرة في الفعل ومرة في رد الفعل، مرة في التفسير المطلوب ومرة في التبرير المرفوض، مرة في المعنى الجوهري للقرار، ومرة في الرهانات وحالة التوجس والترقب وما اذا كان ينظر إليها على محمل الجد، مرة في السؤال ما اذا كنا نمضي في الاتجاه الصحيح، ومرة في إقناع الناس بمسوغات القرار وأي قرار آخر يمس الناس ومعيشتهم إقناعهم، بأننا نمضي حقاً في الاتجاه المدروس. لا يقف الأمر عند ذلك الحد، والذين يتمتعون بموهبة التقاط الإشارات وهي طائرة، يمكن ان يلاحظوا ان موضوع الدعم هو مجرد نموذج صغير، وان هناك الكثير المرتقب مما هو أهم وأعظم ضمن حالة التقشف مما سيكون له تداعيات ومآلات من النوع الذي يخشى ان يكون اكبر في الأثر والصدى والوجع.. غير ان الذي نلح عليه ونستعجله ان تصدق تصريحات المسؤولين الذين لفتوا الى اجراءات حازمة لحماية الاقتصاد الوطني وحماية المواطنين انفسهم، وبأعباء ومخاطر ديَّن عام غير محتملة وعجز مالي متفاقم، وأسعار نفط تتهاوى، ولكنهم جزاهم الله كل خير بشرونا بان مكتسبات المواطنين ضمن اجراءات التقشف لن تمس، وبان ما سيتخذ من قرارات لن تقصم ظهورهم وستكون مبنية على آفاق ومخارج مدروسة، ويفهم من ذلك بان ما هو مرتقب لن يدور بأي حال في أصله ومنتهاه في محيط تغتال فيه المعاني في أبسط توصيف، الى الدرجة التي نخشى ان يذهب فيها البعض الى القول بان أوضاعنا ليست جيدة فحسب، ولكننا نقدم نموذجاً رائداً يحظى بتقدير الجميع في الشرق والغرب، وما الى ذلك من الكلام الكبير الذي ألفناه، المرجو في كل حال ألا تصدمنا النتيجة..!! اذن موضوع الدعم، مجرد نموذج صغير لأمور كثيرة يفترض ان تواجه وتعالج بحكمة بشكل يقنع الناس ولا يخيب أملهم في بلوغ هدف التعامل الأمثل خاصة مع كل ما يهم الناس ويتعلق بعيشهم ويقض مضجعهم، وهي كلها ذات صلة وارتباط وترابط بما يفترض انه يمس مقدرات الدولة ومداخيلها ومصروفاتها وإدارة المال العام، وتفعيل قيم المساءلة والمحاسبة، وها نحن امام امتحان جديد، المتمثل فيما هو مطروح بين أيدي الناس هذه الايام من حقائق كشف عنها تقرير ديوان الرقابة المالية والادارية وكلها تشير بالأصبع وبالأدلة والوثائق ومن خلال جهاز رسمي موثوق به الى مواضع ومكامن قصور وخلل وأخطاء وخطايا وروائح فساد قوية ونفاذة، وكل ما يمثل هتكاً لأبسط قواعد المسؤولية في عدة قطاعات ومجالات من مواقع العمل والخدمة العامة، واحسب ان كثيراً من هذا الذي نشر من واقع هذا التقرير من الخطأ الفادح السكوت عليه وعلى أسبابه ومصادره وعدم التردد في حساب المسؤولين عنه بكل الحزم والصرامة اللازمة بشكل يقنع الناس.. وما خرج به احد الوزراء من تصريحات لم تقنعهم، وكلام من نوع ان الحكومة جادة في التعامل مع الملاحظات الواردة في التقرير، وان لا حصانة لأي شخص يرتكب مخالفات تستدعي تدخلاً قضائياً الى آخره.. كلام وجدناه يتكرر عند صدور كل تقرير، ما يقنع الناس حقاً بدلاً من تركهم في غيهم يعمهون تسييد مفهوم سيادة القانون وان يتوقف التسامح الذي لا حدود له الذي فوت محاسبة من أدانه ديوان الرقابة في تقاريره عن أخطائه وتجاوزاته بأية صورة من صور المحاسبة، تمعنوا في حجم وشكل وطبيعة التجاوزات والانحراف بالمسؤولية العامة عن مقصدها، وتابعوا جيداً اذا ما كنا سنمضي حقاً في طريق الجد نحو معالجة جادة لمشكلاتنا المستعصية التي تطفوا على السطح بمنتهى الشفافية..!! سنبقى نتساءل وبجد وربما بسذاجة او حتى على سبيل تضييع الوقت، وما اكثر الوقت الضائع في حياتنا: الى متى سنتجاوز حالة الردح المقرونة بكثير من المراوغة التي تترافق مع صدور كل تقرير، ومع بروز كل مشكلة..؟ بمعنى: متى نتجاوز الشكليات ونمس الأساسات حين التعاطي مع ما يزخر به واقعنا من مشكلات..؟ والسؤال بعبارة اخيرة: هل نحن عازمون بالفعل على إصلاح ما لدينا من عطب ام سنظل أسرى المراوحة، وفي أحس الأحوال نظل نمارس سياسة الأقراص الفوارة..!!