كثيراً ما أقابل قراء يناقشونني في مقالات كتبتها قبل سنوات طويلة.. أخبرني أحدهم مثلاً أنه يتذكر مقالا كتبته قبل عشرين عاماً عن توارد خواطر حدث بيني وبين والدتي، وقال آخر إنه لا ينسى المأساة الافتراضية التي أخبرت بها ابني فيصل في مقال "نظرية الفستق"، وثالث أكد لي أنه لن ينسى "حكاية أبو سعد" لأنه تعلم منها كيفية ظهور النقود والفرق بينها وبين "المال".. .. في البداية كنت أنظر إليهم كأشخاص يملكون "ذاكرة خارقة".. غير أنني لاحظت أنهم يتذكرون فقط المقالات التي تتضمن قصصاً جميلة ولا يتذكرون مقالات كتبتها البارحة تتضمن أرقاماً ومعلومات مجردة.. هذا الاستنتاج بدا لي مقبولاً ومعقولاً كوننا نتذكر قصصاً من أيام الطفولة أو سمعناها من جداتنا ولكننا ننسى أرقاما وإحصائيات قرأناها البارحة في الجريدة.. فأنت مثلاً ستنسى بسرعة معلومات اقتصادية جافة مثل: "ارتفع الدين العام السعودي إلى 9.6 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي بنهاية العام الحالي 2015، مقارنةً ب1.6 في المئة من الناتج المحلي في نهاية العام 2014 نتيجةً للهبوط الحاد في أسعار النفط الذي سيؤدي بدوره إلى تراجع الإيرادات مع تدفقات الإنفاق الحكومي عند مستويات مئوية مرتفعة" ولكن؛ في المقابل لا يمكنك أن تنسى قصة حقيقية يبدأها رجل عجوز بقوله: "جدي ووالدي وأعمامي ماتوا من الجوع خلال أسبوع واحد حين عمد الأتراك إلى تهجير سكان المدينة، أما والدتي وأخواتي فأخذوهم معهم ثم رموهم من القطار في صحراء الأردن" (سمعتها من شايب يتحدث عن جريمة سفر برلك التي ارتكبها العثمانيون قبل مئة عام بحق أهل المدينة)! وهذا إن دل على شيء فعلى أن ذاكرتنا البشرية تعشق القصص والحكايات وتتبناها بشكل فوري، وفي المقابل تكره المعلومات المجردة والأرقام المتفرقة ولا تسمح بدخولها أصلاً.. لاحظت شخصياً أن من يتذكر مقالاً كتبته قبل عشرة أعوام لا يتذكره (حرفاً حرفاً) بل يتذكر (إطاراً عاماً) لقصة جميلة أو حكاية مؤثرة وردت فيه.. وحين تعود إلى عصر ماقبل التلفزيون والراديو والإنترنت بل وحتى قبل عصر الكتابة والتدوين تكتشف أن "القصص" لم تكن فقط وسيلة التسلية الوحيدة، بل ووسيلة تواصل ينقل بواسطتها الجيل القديم خبراته وتجاربه وأفكاره إلى الجيل الجديد (ولك أن تتصور غسيل الدماغ الذي يخضع له أطفال ينصتون بكل جوارحهم لحكايات يلقيها حكواتي عجوز).. وكانت نقابة الإطفائيين في أميركا قد لاحظت أن تبادل قصص الشجاعة والتضحية (التي يتداولها أفراد المجموعة بعد كل حريق) هي أفضل وسيلة لرفع كفاءة الأفراد الجدد وتهيئتهم للمرور بنفس المواقف حين تتكرر معهم مستقبلاً.. وما يبدو لي أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب هذه الأيام دور الحكواتي الذي لا يتردد بخلط الحقائق بالأكاذيب والخرافات بالمعقول.. فالمهم هنا ليس صحة الخبر ولا مستوى اقترابه من الحقيقة، بل في جمال القصة ومفارقة الحكاية التي تجذب الناس لدرجة تبنيها وإعادة سردها أو إرسالها "كما وردتني" في فضاء الإنترنت والواتساب!! .. وإن كانت هناك نصيحة أقدمها (لكتابة مقالات لا تُنسى) فهي تبني عنوان المقال ذاته: "لا شيء يجذب الناس مثل قصص الناس".. .. حتى أنا نسيت من قال هذه الجمل ولكنني مازلت أتذكرها من أيام الطفولة.