عند سماعي نبأ موت أحمد الجلبي الذي تناقلته الأنباء في الأسبوع الفائت تذكرت، ولا أعرف ما وجه الصلة، مجموعة قصص موت صاحب العربة للكاتب البحريني القدير محمد عبد الملك أطال الله في عمره وحفظه ذخراً إنسانياً وأدبياً للبحرين. فاستحببت العنوان الذي تقرؤون أعلاه، مع الفارق طبعاً، بين صاحب العربة وصاحب القافلة! الحديث عن العراق بسياقاته المختلفة في حقبة الرئيس السابق صدام حسين مؤلم، ومؤلم جدا، ولكن مثل هذا الحديث، يبدو أنه أكثر إيلاماً هذه الأيام، أيام السفر في تيه المذهبية. أقول ذلك ليس لأن نظام صدام كان نظاماً حنوناً على شعبه ويتقاسم معه السعادة. كلا وألف كلا، فلقد اتفق كثيرون على تسلط ذاك النظام ودكتاتوريته ولهذا لم يلقَ العمل على إسقاط نظامه، وإن طال، معارضة تذكر من جميع فئات المجتمع العربي تقريبا، غير أن ذاك النظام على سوءاته ليس أكثر قسوة مما يجري اليوم على أيدي الحكام الجدد الذين يبدو أنهم يستلهمون أفانين التمييز والإساءة والقهر والترويع من منقوع الدكتاتورية المترسبة في أذهانهم من ذاك النظام، ومن تصور فاسد لمفاهيم الدولة والحكم والعدالة والوطنية والمواطنة. منذ بواكير حقبة التسعينيات، كانت المعارضة العراقية الدائمة الاستضافة في وسائل الإعلام، معدودة خوفاً من بطش العسس البعثي وتنكيل المخابرات المرعب حينذاك، لكن حضور السيد أحمد الجلبي فيها، كواحد من أفراد تلك المعارضة، كان حضوراً بارزاً. وقد كان جريئاً، بما فيه الكفاية، في أن يظهر على الملأ حماساً منقطع النظير لإسقاط نظام الطاغية صدام حسين، وإقامة نظام ديمقراطي بديل. وبهذا العنوان الجذاب جذب الجلبي كثيرا من المؤيدين. الجلبي صنع حضوره في المشهد العراقي من خلف عنوان الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي كان يتغنى بها، كما هو الحال بالنسبة إلى الجمعيات المذهبية في البحرين حالياً، ولما بلغ مع من بلغ الحكم انحاز إلى الطائفية للإبقاء على الامتيازات في دائرة الحكم. للأمانة لم يكن أحمد الجلبي، بالنسبة إلي على الأقل، خطيباً مفوهاً ليشدني للاستماع إليه ومتابعته، ولكنه كان يثير الاعجاب لجرأته التي بها تفوق على كثير من أقرانه ممن كانوا معه يتسولون المساعدة في صالونات البيت الأبيض ودهاليزه. صحيح أن هناك شبهات كانت تحوم من حوله وخصوصا فيما يتعلق بمسألة الفساد المالي الذي كان يلاحقه عندما كان رئيساً لمجلس إدارة بنك البتراء الأردني، إلا أن الموضوع العراقي الساخن آنذاك كان كفيلاً بتلميع صورته، وطمس أي قضية أخرى. العراق منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران كان يغلي. وقد ذابت قضية فساد الجلبي في المرجل العراقي آنذاك إلى درجة نسيت معها الصنائع الإجرامية لأحمد الجلبي وأمثاله وهم كثيرون؟! الحقيقة أن موت أحمد الجلبي لم يثر كثيرا من الجدل، وقد تناولته معظم الوكالات حدثاً، أو خبراً عادياً أشبه بما يذاع يوميا في وفيات نشرات الأخبار في تلفزيونات دول مجلس التعاون، فقد كان في حياته أكثر حضوراً، لأنه كان كثير السقطات وخصوصا عندما أفصح عن مذهبيته وذهب في تأسيس تجمعاته الطائفية، ولكن ما يجعلني أطرح موضوعه هنا واستحضره حياً هو تدخله السافر في شؤون البحرين إبان فترة الحراك المذهبي في البحرين عام 2011، عندما تنطع بالقول إنه سيرسل قافلة إغاثة إلى الشعب البحريني أطلق عليها اسم قافلة المختار. وقد وصف إياد علاوي وقتها هذا التصرف بأن الهدف منه هو جر المنطقة لاصطفافات طائفية... وفعلا كان هذا هو المآل الذي بلغناه في عموم دول مجلس التعاون منذ ذلك العام الذي يرخي بسدوله الكئيبة على المجتمعات الخليجية، فالقيم التي بنتها الدولة الحديثة عصفت بها لدى بعضهم سيناريوهات مشبوهة ثبت بالمكشوف عملها على تفتيت منظومة دول مجلس التعاون وتفتيت مواطن القوة الوحيدة لدى أمة العرب لإعادة تشكيل خارطة المنطقة وفقاً لمصالح الأخوين اللدودين إيران وإسرائيل. ربما كان أحمد الجلبي يعني شيئا كبيرا لبلده العراق، كما قال بعض ممن عملوا معه وعايشوه لحظة موته، إذ أن بعضهم يقول إنه كان مميزاً! ولعل في ذلك حكم يكتنف على كثير من الذاتية. لماذا؟ لأن العراق بحضارته العريقة مليء بالمميزين. كان يقال أيضا إنه كان حاد الذكاء. فماذا يمكننا أن نقول عن هادي العلوي مثلاً، أو سعدي يوسف أو الجواهري وغيرهم من شوامخ العراق وأعلامها؟! خلاصة المقارنة من خلال طرح أسماء عراقية فحسب، يمكننا القول إن أحمد الجلبي قد لعب دوراً في الإطاحة بالنظام العراقي السابق الذي كان يقوده صدام حسين. غير أن السؤال الأهم الذي ينبغي أن يطرح هنا، ما النظام البديل الذي أسهم في إنشائه أحمد الجلبي عندما جاء منتشياً بالنصر على ظهر دبابة أمريكية؟! وأين يكمن تميز أحمد الجلبي؟ إن التحول الدراماتيكي الذي جعله ينزاح عن الفكرة المدنية لينصاع إلى المذهبية المريرة التي شوهت التطور الطبيعي للمجتمع العراقي قد غيّر كثيرا في المرحلة اللاحقة من تطور الدولة المدنية العراقية. هذا إذا اتفقنا على أن المسار السياسي للدولة العراقية يقود إلى تأسيس دولة مدنية. لو كان أحمد الجلبي يسعى حقاً إلى إقامة دولة مدنية لما كان قد وقف مع الحراك المذهبي الذي سعى بكل الوسائل إلى ضرب الدولة المدنية البحرينية ذات الامتدادات التاريخية الضاربة في عمق التاريخ، وإقامة دولة إسلامية أو جمهورية إسلامية كما صرح بها في ذلك الوقت المحبوس حسن مشيمع. لا أظن أننا سنسمح أن يمر موضوع تدخل أحمد الجلبي في الشأن البحريني مرور الكرام بعد موته. إنه حاول الإضرار بالتطور السلمي في البحرين، وتجيير الحوادث الطائفية في العام 2011 لخدمة أجندة مذهبية ترسم تفاصيلها دوائر المخابرات الإيرانية وتنفذ على أياد بحرينية. وتذكيراً بقافلة الجلبي المختار التي أثارت لدى البحرينيين ساعتها السخرية، نقول إنها قافلة، زعم الجلبي تحميلها مساعدات طبية ومواد غذائية! تصوروا شعب البحرين ينتظر من الجلبي وحكومته العراقية التي لا تملك ما تطعم به شعبها مساعدات؟! أليست هذه نكتة العصر؟! هذه دعاية عولمية تبرع بها الجلبي ليساعد بها مذهبيي البحرين الذين روجوا آنذاك الأراجيف وأشاعوا عبر إعلامهم الضال الأكاذيب بأن الجثث منتشرة في طول البحرين وعرضها بسبب إمطار طائرات الأبابشي المحتجين بوابل من الرصاص، وبأن قوات درع الجزيرة تقتل على الهوية من كان شيعياً! (هكذا!!) موت أحمد الجلبي، الذي تتضارب الأنباء حول ملابساته فبعضهم من أعزى موته إلى سكتة قلبية وبعضهم قال إنه مات مسموماً، ينبغي أن يستمد منه الموهومون بـ الربيع العربي العبر، ويعيدوا شريط وقائع اليوميات المسيرة له ليتكشف لهم المستوى المتدني من الوعي بالوطنية، بحيث تماهت مع العمالة والخيانة الوطنية، وليعلموا أن التاريخ لا يرحم الخونة. بموت صاحب قافلة المختار يتعرى عندي حجم العمالة التي كان غارقاً فيها. لقد كان عميلاً أمريكياً، ومن ثم إيرانياً، ولا أستبعد أن يكون عميلاً مزدوجاً. فهل ينبغي أن يكون للعملاء مكان في صفحات التاريخ، تاريخ بلدانهم؟!