نزوح هائلة للبائعين والبائعات من على أرصفة الشوارع المجاورة للأسواق الشعبيّة إلى شبكة الإنترنت وتحديداً الانستغرام، حتى أم صالح الستينيّة التي كانت تتوكأ على عصاها السوداء عندما تريد أن تنتقل من الركن الأيمن إلى الركن الأيسر لـ(بسطتها) المتواضعة هي الأخرى انتقلت. كل شيء تحوّل من الحياة الواقعيّة إلى الشبكات الافتراضيّة سالبة معها المظاهر الإنسانيّة وقاطعة وسائل الاتصال الشفاهي والمباشر بين البائع والمشتري لتجعل من المجتمع مجرّد لوحة مفاتيح وشاشة عرض فقط. قديماً كانت الأحاديث الجانبيّة بين الباعة وزبائنهم متنفّساً حقيقياً، هذا يشكي هموم حياته اليوميّة، وذلك يحكي تجربته المريرة مع زوجته النكديّة، والآخر يبحث عن علاج شعبيّ لمرضه، كانت شبكة تواصل اجتماعي واقعيّة ترى فيها ملامح المتحدّث، لمعان عينيه، كثافة شعره، طريقة نطقه للكلمات. البضائع هي الأخرى لم تعد تعاني من حرارة الشمس كما كانت تفعل في السابق لتشارك البائع قسوة المناخ، لم تعد تنصت لعبارات المارّة وضحكاتهم وهي مصفوفة فوق لوح خشبّي تنتظر من يشتريها، لم تعد تسمع المشتري وهو يحاول أن يخفّض من ثمنها ليخلصها من معاناتها وينقلها إلى منزله الذي لا يشبه أبدا ذاك الرصيف. باعة كثر كانوا لا يجيدون سوى لغة الرصيف، الآن هم تائهون في بحر شبكات لا تحمل ملامح الأرصفة إطلاقاً، بتعليمهم المتدنّي وبدائيّة ثقافتهم في مجال التسويق الإلكتروني يواجهون كساد سلعهم، يريدون أن يقنعوا المشتري بجودة منتجهم كما يفعلون في الماضي لكنّ التعامل من خلف الشاشة يعقد ألسنتهم، ويطمس تضاريس أجسادهم وإماءاتهم التي كان لها تأثيرها في التسويق لبضائعهم. الانتقال من أرصفة الشوارع إلى شبكات التواصل الاجتماعي انتقال معرفّي وفكري يفرض تقنيات أخرى وأساليب أكثر تطوراً لإقناع العملاء، وهذا ما ينقص أم صالح وغيرها ممن اتجهوا إلى الانستغرام وهم مستمرون في التفكير بذات الطريقة التقليديّة المتأسسة على مبدأ المشافهة لا التخاطب الرقمي. أرصفة الانستغرام تمنح البائع فضاءً واسعاً يمكّنه من استقطاب عملاء جدد يبعدون عن موطنه آلاف الكيلومترات، لكنّها في الآن ذاته حدّت من الأبعاد الاجتماعيّة المتوفّرة في أرصفة الشوارع، لتجعل من عمليّة البيع والشراء عمليّة صمّاء لا تتحدث إلا بلغة المال والحوالات البنكيّة، ضاربة المسمار الأخير في نعش قهقهات الماّرة، وابتسامات الباعة، وحتى عصا أم صالح السوداء!. * ماجستير في النقد والنظرية