تجلّت السياسة بوصفها فن الممكن في اللقاء التاريخي بين الرئيس الصيني شي جين بينغ والتايواني ما ينغ جيو، فالرجلان - اللذان اتفقا على أن يسميا بعضهما ب»السيد» ليخرجا من ضيق وحرج البروتوكول - دخلا التاريخ من أوسع أبوابه عندما وضعا خلافاتهما الوجودية جانباً، وأجمعا على أن يبقيا أسرة واحدة، فالعظام تنكسر ولا تنفصل على حد قول الرئيس الصيني. وعندما كانت حاملة الطائرات الأميركية «روزفلت» تعبر بحر الصين الجنوبي، كان الرئيسان مجتمعين في أحد فنادق سنغافورة؛ الجزيرة الصينية الهوى، ومن على هذه الحاملة قال وزير الدفاع الأميركي اشتون كارتر: إن بلاده تمارس دورها المهم في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة. شكّلت الخطوة التي أقدم عليها الرئيس الصيني بلقائه نظيره التايواني أمراً بالغ الديناميكية، إذ شكّل هذا الانفتاح على تايوان اختراقاً في العمل السياسي لدى بكين، التي أدركت أن واشنطن عزمت على تنفيذ استراتيجيتها بتطويق الصين من خلال جيرانها فواجهت التخطيط الأميركي بحكمة صينية، وعملت على تبديد مخاوف الجوار الذي تحاول الولايات المتحدة تضخيمه لتسويغ وجودها في منطقة الممرات المائية الأكثر استراتيجية في العالم. قامت الصين بثلاث خطوات غاية في الذكاء، فخلال أسبوع التقى مسؤولون صينيون بقيادات من ثلاث دول آسيوية على خلاف شديد مع بكين، وهي اليابان التي اتفق رئيس وزرائها شينزو آبي مع رئيس الوزراء الصيني «لي كه تشيانغ» في لقاء جمعهما في سيئول على زيادة تعزيز مبادرة كوريا للسلام والتعاون بهدف بناء الثقة في المنطقة من خلال الحوار. أما الخطوة الثانية فقام بها الرئيس الصيني تجاه فيتنام التي يجمعها والصين نزاع حدودي، فتحدث الرئيس جين بينغ إلى البرلمان الفيتنامي، وأشار إلى أن الجارتين الاشتراكيتين بينهما تاريخ طويل من الصداقة الثورية، ويجب أن تتمكنا من إزالة وتجاوز أي اضطرابات في علاقاتهما. أما الخطوة الثالثة فكانت أكثرها دهاءً عندما التقى الرئيس الصيني بنظيره التايواني بعد قطيعة دامت 66 عاماً. تسعى بكين من خلال هذا الانفتاح على جوارها إلى كسر الطوق الأميركي وحلحلته، والاستدارة بدبلوماسية رشيقة على «المحور الآسيوي» وهو الاستراتيجية الأميركية التي أشارت إليها هيلاري كلينتون في 2011 في دورية «السياسة الخارجية»، وقد أصابت بكين بهذه الخطوات، فإن من غير المنطقي أن تستطيع أميركا احتواء دولة مثل اليابان قصفتها بقنبلتين نوويتين، وأخرى مثل فيتنام أحرقتها بقنابل «النابالم» في حين أن حواجز أقل من ذلك تقف سداً منيعاً بين الصين وجيرانها. إن الخطوة الصينية هي محل ترحيب، إذ إن السلام في هذه المنطقة هو ما يهم الدول النامية، التي توجه صادراتها إلى تلك المنطقة في العالم، ويكفي أن نعرف بأن ربع ما ينقل عالمياً يمر بمحاذاة مضيق «فرموزا» بين الصين وتايوان. وبقدر ما أن هذه الخطوة من شأنها تهدئة القلق في الباسفيك، إلا أن الخشية من أن يكون هذا الانفتاح الصيني بداية لحركة استقطاب كبيرة بين بكين وواشنطن لدول المحيط الهادئ المرتبكة. وتحت عنوان «القوة الأميركية لم تأفل.. والقوة الصينية لم ترجح»، كتب جوزيف ناي هذا الأسبوع في جريدة «لوبوان» الفرنسية: أن الصين لن تستطيع استمالة دول جوارها بالقوة الناعمة في وقت تبث الرعب في أوصال جيرانها. وربما غفل جوزيف ناي عن أن «الميثيولوجيا» الصينية تؤثر في القرار السياسي والاقتصادي، وأن هذا العام وحسب التقويم الصيني يصادف عام «الخروف» الذي يُفترض أن يكون عام الوداعة والتقرب نحو العائلة.. وهو ما نراه اليوم.