لا يختلف اثنان على أن التطور التقني الذي يشهده العالم يجلب معه الكثير من المنافع والمضار في آن معاً. ولعل الحيرة تنتاب الكثيرين منا - نحن البشر - فلا ندري أنفتح الباب أمام هذه التقنيات التي راحت تهل علينا من كل حدب وصوب، أم نوصد الأبواب في وجهها خوفاً مما تجلبه معها من مصاعب ومتاعب؟ حين كنت في العاشرة من عمري لم تكن مهمة والدي في تنشئتنا - كما أذكر - على درجة من التعقيد والصعوبة، كما هي حالي وحال أبناء جيلي اليوم. فقد كانت وسائل الترفيه والمعلومات والتقنيات المحيطة بنا بسيطة ومحدودة، ولم يكن هناك الكثير من هذه الأجهزة الغريبة التي تزور بيتنا، أو تمكث فيه كما هي الحال اليوم. كان الكتاب جليسنا الأكثر أنساً، يتلوه جهاز التلفزيون ببرامجه المدروسة بدقة التي يطغى عليها الإنتاج المحلي، أو جهاز الفيديو الذي يختار والدي ما يجب أن نشاهده من خلاله في أوقات محددة. إذاً، لم تكن التهديدات الخارجية على درجة من الخطورة، وبالتالي فإن القلق الذي ينتاب الأهل وقتها لم يكن بالغاً. أما في يومنا هذا، فكان الله في عون الآباء، فقد اجتاحتنا مختلف أنواع الأجهزة والوسائل والتقنيات بعد انتشار الإنترنت في منتصف التسعينات، وصار العالم أمام الأطفال منذ نعومة أظفارهم فضاءً مفتوحاً، فالطفل يمكنه الولوج إليه بلمسة زر واحدة مهما حاول والداه مراقبته أو إغلاق المنافذ أمامه. فما أن ينتهي أولادنا من مشاهدة برامج الأطفال - إذا ما جازت تسميتها برامج أطفال أصلاً - حتى ينطلق كل منهم إلى حاسوب المنزل، أو حاسوبه المحمول أو جهاز الآي باد ليلعب ويمضي وقتاً طويلاً أمامه، رغم كل المحاولات والمغريات بصرفه عن هذه الأجهزة لمطالعة كتاب مفيد، أو مجلة علمية، أو اللعب في الخارج مع الأصدقاء، كما كان يفعل أبناء جيلنا. ولا أنكر أن هذه الأجهزة والتقنيات ووسائل التواصل الاجتماعي ليست شريرة بالمطلق، وأن فيها من الإيجابيات ما لا يتسع المجال لذكره في هذا المقام، مثل الارتقاء بالكثير من الصناعات والابتكارات، والانفتاح على مختلف الثقافات، وتقريب المسافات، وتعزيز أواصر التواصل مع الأهل والأصدقاء، وشحذ الأفكار، وإطلاق الإبداعات، وتبادل الآراء والاهتمامات. إلا أن آثارها السلبية - ولا سيما على المستوى الاجتماعي - أصبحت تنذر بخطر وشيك لما تتسبب به من عزلة الفرد عن الآخرين، وإضاعة الوقت، واللامبالاة، وتشوه الهوية، وانعدام الخصوصية، ونشر الشائعات، وتشتت المفاهيم، وما إلى ذلك من سلبيات لا يكاد يسلم منها أي بيت. ولما كان الاستغناء عن هذه الأجهزة والوسائل أمراً شبه مستحيل، فقد أصبحنا اليوم بأمس الحاجة لحماية أبنائنا، وبات لزاماً علينا وضع خطط وبرامج دقيقة لتوعية أبنائنا وتثقيفهم وتزويدهم بالمناعة اللازمة كي يحسنوا استخدام التقنيات الحديثة من دون منعها أو حجبها عنهم. ولا بد من تضافر الجهود بين الآباء وبقية مكونات المجتمع لتحقيق هذه الغاية والوقوف في وجه الغزو الفكري والتقني الذي تشهده مجتمعاتنا. ومن هذا المنطلق، يتوجب على الآباء التنسيق مع المؤسسات التعليمية والأندية الترفيهية لوضع خطة عمل تستهدف التحديات الثقافية والفكرية التي يواجهها المجتمع الإماراتي نتيجة غزو هذه الوسائل والتقنيات، وعقد لقاءات دورية يشارك فيها مختلف الأكاديميين والمختصين وأولياء الأمور لمناقشة السلبيات التي تلقي بظلالها على أبنائنا وتهدد أفكارهم، ووضع الحلول الملائمة والأفكار العملية للحيلولة دون ضياع مستقبلهم. إن أبناءنا أمانة في أعناقنا وعلينا أن نقوم بواجبنا بأكمل وجه تجاههم، وأن لا ندخر أي جهد لحمايتهم وتنشئتهم تنشئة صالحة كي يكونوا فخراً لنا ولأوطانهم في المستقبل. المحامي عبد الله إبراهيم دعيفس